ماهر أبو الفضل يكتب : الشقيق الخائن مات شهيدًا

وصل الشاب لمنزله يقطر ماءً من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، وحينما فتحت الأم الرءوم الباب، وجدته في حالة يُرثى لها

ماهر أبو الفضل يكتب : الشقيق الخائن مات شهيدًا
ماهر أبو الفضل

ماهر أبو الفضل

9:28 ص, الخميس, 20 مايو 21

استيقط علي صوت أمه، في الرابعة فجرًا، تطلب منه للحقل ليروي الأرض قبل أن يُغلق الهويس، وتجف المِسقى.

التحف إسماعيل من شِدة البرد بالبالطو الأسود، وذهب مُسرعًا، تاركًا أخاه عاطف، الطالب بالشهادة الإعدادية يغط في نومِ عميق، بعد أن رفضت أمه أن توقظه لمعاونة شقيقه في ري .

بعد أن أتم مهمته، وهو في طريق العودة، ساحت دموع السحاب رذاذًا خفيفًا ، ما لبث أن اشتدّ وقوي فإذا بالأمطار تنهمر غزيرة كأنها تتدفق من الصنابير.

الريح تصفع وجه إسماعيل وتلسع ساقيه

سار في الشارع، مواجهًا ريحًا تصفع وجهه وتلسع ساقيه، وتسرّبت تحت البالطو، فاقشعر جِلده، وارتعش جسده النحيل بطبعه.

انطلق مهرولا، حانيا ظهره دافنا رأسه بين كتفيه، وفجأة سقط في بِركة مُوحلة، فاتسخت ثيابه وكسا الوحل وجهه وشعره، نهض متثاقلا، ململمًا أغراضه المتمثلة في فأسٕ صغيرة يحملها مع ما تبقي من أرغفة الخبز والجِبن.

وصل لمنزله يقطر ماءً من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، وحينما فتحت الرءوم الباب، وجدته في حالة يُرثى لها، أدخلته مسرعًا لغرفته، غيّر ثيابه المُبللة وجلس قرب المنقد – أي المدفأة- واحتسي مشروبًا ساخنا فشعر جسمه المقرور بالدفء وتوردت خدوده وعاد إلى سالف نشاطه.

ماتت الأم وانفطر قلب الشقيقين

بعد ثلاث سنوات ماتت الأم، انفطر قلب عليها حُزنا، حتي إن شرخ فراقها لا يُجبر ولا يُرتق، فبموتها تكونت في نفسهما نبتة مُرة تقلبها ريح الأيام، ويسقيها مطر الظنون، فكم ليلة يجب أن يسهرا كى يقتنعا أن الليالى لن تأتى بها؟ وكم صباحًا يجب أن يستقبلا كى يتأكدا أن شمس أمهم الرءوم لن تُشرق صباحهم؟

مرت السنون، وتخرّج عاطف في كلية الآداب، لم يجد عملًا حكوميًا، عرض عليه أخوه أن يعاونه في زراعة أرضهما، وافق بعد أن وصل لقاع هوة اليأس، وفقد الأمل حتي في العمل مُدرسًا بالحِصة بمدرسة القرية.

تزوج إسماعيل من القرية المجاورة، وبعد سنوات لحقه أخوه الأصغر عاطف، عاش الشقيقان في المنزل نفسه، برصيد الحُب الذي تركته فيهما أمهم، والذي لم ينضب إلا بسُم الغيرة بين السلايف –لفظ يُطلق علي زوجات الأخوات الذكور- والذي حفر جُرحًا لم يندمل، إلا بعد أن تقاسما الميراث وافترقا ليعيش كل منهما في منزل بمفرده.

السلايف تقتلع شعور الحب الذي زرعته الأم

شعور الحُب الدافئ الذي زرعته الأم، اقتلعته السلايف، وأسلما الشقيقان لثلوج الزمن، بعد أن تركوهم كأشجار الشتاء التي تموت شامخة، وتسللت طعنات الحاقدين من الجيران التي لا ترحم، مستغلة الجُرح الساكن بداخل قلب الأخوين لتقتل ما تبقي من مشاعر.

ذات يوم، التقى الشقيقان “صُدفة” في أرضهما المتجاورة لتجهيزها للري، فوجئا بانخفاض منسوب المياه في المِسقى حتى قاربت علي الجفاف، اندهشا قبل أن يخبرهم أحد المارة أن جارهم في الحقل اسمه عثمان، يشرع في بناء سد ليحجز به المياه فور فتح الهويس، ليروي أرضه الشاسعة.

ذهب إسماعيل لجاره متسائلًا عن سبب شروعه في بناء السد؟ فوجئ به يخبره أن حصة المياه التي تمر بالمِسقي تتضاءل عاما تلو الآخر، وأنها تمر علي أرضه أولًا، قبل أن تصل لأرض الشقيقين، ومن ثم فمن حقه بناء السد ليضمن ري حقله بعدها سيفتح السد.

طلب منه التنسيق فيما بين ثلاثتهم- الشقيقان وعثمان- حتي لا تتعرض أرضهما للبوار، لكن قوبل طلب إسماعيل بالرفض القاطع.

الجار الشرير يستغل الكُره بين الشقيقين

نما إلي عاطف ما طلبه شقيقه الأكبر من جارهم، فذهب إلي عثمان ليطرح عليه السؤال مجددًا عن سبب بناء هذا السد؟ وقتها استغل الجار الشرير، الكُره بين الشقيقين، وعرض عليه التنسيق معه منفردًا، بحيث يتم بناء السد علي ان يتعهد بمنح عاطف حصة من المياه تكفي ري أرضه.

كان الشقيق الأصغر في حِيرة من أمره، وبين خيارين كلاهما مُر، إما التنسيق مع عثمان في بناء السد وضمان ري أرضه كما “عاهده” الأخير، وإما رفض العرض وتجاوز الخلافات مع شقيقه لمواجهة الجار الجائر حتي وإن كانت الفاتورة تعريض أرضه للبوار!!!، فطلب منه مُهلة للغد للتفكر ودراسة الأمر.

أثناء عودة الشقيق الأصغر لمنزله، عاد بذاكرته، متذكرًا إيثار أخيه الأكبر إسماعيل له علي نفسه، ووصية أمهما بأن لا تفرق الخلافات بينهما، مهما كانت طبيعتها، لكنه تذكر في الوقت نفسه الآلم النفسي الذي تسببت فيه زوجه شقيقه لزوجته بعد معايرتها بعدم الإنجاب، وكان لسان حاله يقول “كل شيء يمر، لكن معايرة زوجة شقيقي تأبى المرور دون ندبات، انظروا في قلبي لو استطعتم لتروا آثارًا للجراح وأوشامًا دامية ” .

الحي أبقي من الميت

حكي لزوجته عما دار بينه وبين جارهم في عثمان، طالبًا منها المشورة، لم تفكر كثيرًا، وأوعزت إليه بقبول العرض فورًا، عاجلها متسائلًا، وكيف أترك شقيقي يواجه مخاطر بوار أرضه بمفرده؟ وماذا أفعل بوصية أمي؟ أجابته، “الحي أبقي من الميت” !!!.

في اليوم التالي، ذهب للجار الشرير، مبديًا موافقته علي العرض!! ابتسم عثمان مندهشًا، واتفقا علي الانتهاء من بناء السد خلال ثلاثة أيام قبل فتح الهويس، حتي يتمكنا من حجز المياه الكافية لري أرضهما ، بشرط أن تتم حراسته ليلًا خشية قدوم الشقيق الأكبر إسماعيل وهدم السد.

استأجر عثمان رجلين شديدين لحراسة السد، وتحمل بمفرده لضمان ولائهما الكامل له، وبعد يومين انتهى الشقيق الخائن والجار الشرير من البناء، وفي نهاية اليوم الثالث قبل فتح الهويس بسويعات، ذهب عاطف للحقل وأعطي أحد الحراس مائتي جنيه يشتري بنصفها طعامًا من القرية المجاورة ويتقاسما المائة جنيه المتبقية، علي أن يتولي مع الحارس الآخر مهمة الحراسة.

معركة الحسم وموت عاطف

وبعد مغادرة الحارس بنصف ساعة، فوجئ عاطف ومن معه، بشقيقه الأكبر وبصحبته رجال حاملين العُصي والفؤوس، قادمين نحوهما، وتسرب الخبر لعثمان الذي جاء مسرعًا ومعه مجموعة من الخارجين على القانون، ودارت بينهما معركة، أثناءها غافلهم إسماعيل وقام بهدم السد، لم يلحظه إلا عثمان والشقيق الخائن، فأطلق الجار الشرير الرصاص عليه بغرض قتله، لكن عاطف تلقي طلقات الرصاص في صدره، و في الحال، فيما نجا أخوه.

حضرت الشرطة وقامت بإلقاء القبض عليهم، وبعد عرضهم علي النيابة، قررت إخلاء سبيل إسماعيل لأنه كان في حالة دفاع وقائي عن النفس، وحبس عثمان ومن معه أربعة أيام علي ذمة التحقيق.

خرج إسماعيل من سراي النيابة، والحُزن يفيض من قلبه نهرًا، لموت شقيقه الذي دفنه بعد تشريحه بواسطة المعمل الجنائي.

المعدن الأصيل

سألته زوجته وبعض الجيران عن سبب حُزنه، وأن موت أخيه كان نهاية لخيانته، ففاجأهم بقوله، أخي لم يخوني يومًا، بل مات شهيدًا، إذ افتداني بنفسه، فشقيقي أخبرني بالعرض الشرير من الجار الجائر، واتفقنا أن يجاريه حتي نعلم بما يدور في نفسه، والتدخل في الوقت المناسب، وتم وضع خطة لتقليص الحراسة علي السد حتي نتمكن من هدمه.

ذهب إسماعيل لمنزل شقيقه الذي افتداه بصدره وقلبه، وما إن رأي صورته علي الحائط، سارع بتقبيلها وهو يقول “يا أخي وابني، موقن أنك مازلت هنا، فبقايا أنفاسك وهمساتك ورائحة عِطرك، وجلدك الممتد فوق جلدى باقية في قلبي، لملم شتاتى وبعثرنى بك حتى لا نفترق.. إلي لقاء يا صغيري”.

[email protected]