ماذا يخفي تمثال شامبليون؟

محمد بكري

9:19 ص, الأحد, 12 مارس 23

محمد بكري

محمد بكري

9:19 ص, الأحد, 12 مارس 23

بعد 13 مقالًا فى نفس الموضوع، أتساءل ماذا يخفى تمثال شامبليون؟ هل يخفى انتقام أوجست بارتولدى فنيًّا من الخديو إسماعيل؟ أم تفوقًا مزيفًا لشامبليون فى تفسير الهيروغليفية؟ أم ردًّا سياسيًّا فرنسيًّا على إنجلترا سبب خروجها من مصر؟ أم نفثة رسائل سياسية عنصرية نفسية يؤكدها استمرار زمن بقائه بتمسك فرنسى حاسم؟ أم يخفى صمتًا وجدلًا وتآمرًا من أحفاد البارتولديين والشامبليونيين، لإحباط وإعاقة أى محاولة لتصحيح التاريخ ورفع المهانة وتكاسل الأفاقة؟

إن جنسية وصفة وهوية ومشاعر وتاريخ أى مواطن مصرى “طبيعي” – أيًّا كانت أسبابه، أو مبرراته الثقافية، أو الفنية، أو الشخصية – تمنعه من الصمت، أو الاستكانة، أو التهاون، أو التبرير، أو التواطؤ، لمنع أو تفشيل أو تسخيف التصدى لأى محاولة موضوعية، لدعم المطالبة بعدم صلاحية تمثال شامبليون للعرض العام، سواء كان لهوى فرنسى، أو واقع سياسى، أو صعوبة موضوعية، أو نقص معلومية.

الإجابات تفاجئنا بمعلومات ومراجع موثقة – متاحة بالإنترنت وبالجامعات – أن شامبليون ليس أول مكتشف للهيروغليفية، بل أخطأ فى تفسيره لها وحادَ بتخميناته اللغوية عن معانيها، كما ورد بـ6 آراء علمية بكتاب معجم الحضارة المصرية القديمة لمشاهير علماء الآثار (جورج بوزنر، سيرج سونرون، جان يويوت، أ.أ.س. إدواردز، ف.ل. ليونيه، جان دوريس). أخطاء تفسير شامبليون وترجمته الظنية تنضم لكونه ليس المكتشف الوحيد، بعد سابقيه من العلماء العرب والألمان والإنجليز! بما يفقد عنصر أصالة وحصرية وتميز عمله، ويجعل أسطورته العالمية لاكتشافه للهيروغليفية، أكذوبة تاريخية أرضعتها فرنسا ورمزية تمثاله للوعى الجمعى العالمي! ومن ثم فعلميًّا وتاريخيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا، مُحال أن يوثّق فعل المخطئ بالمضرور ويقنّن فنيًّا!

من جهة أخرى فعلاقة أوجست بارتولدى برفض الخديو إسماعيل لتمثاله واستبداله، ثابتة وموثَّقة تاريخيًّا ومستنديًّا. ونحت بارتولدى تمثاله شامبليون بعد الرفض الإسماعيلى يحسم وجود سببية موضوعية لانتقام بارتولدى من إسماعيل فى صورة فنية، أخفاها ببراعة موضوعية فى قصة شامبليون، وشكليًّا فى تمثال استوحاه من لوحة أسطورة أوديب وأبو الهول، للفنان الفرنسى أنجوس!

وطبقًا لمقال منشور بمجلة “ناشيونال جيوغرافيك”، فإن البريطانيين أرادوا دخول مصر أيضًا، وفى عام 1801 انتصروا على القوات الفرنسية. وسُمح للقوات الفرنسية بإخلاء مواقعها، “لكن البريطانيين طالبوا بتسليم مجموعة الآثار قبل المغادرة”، وبذلك غادر حجر رشيد بلاده مصر فى عام 1802، إلى لندن، حيث تم عرضه بالمتحف البريطانى فور وصوله تقريبًا. واعتبرت المجلة أن “هذا هو السبب الوحيد الذى جعل من هزيمة نابليون العسكرية فى مصر انتصارًا تاريخيًّا لبريطانيا”، لذلك يوافق هذا التمثال هوى فرنسى ضد إنجلترا – كرأى أستاذ تاريخ فرنسى معاصر هو Jean-Pierre BEAUCHAMP – كإثبات فرنسى بسبق الاكتشافات المصرية والسيطرة على علومها، ودعمًا لمقال المجلة المذكورة.

من هنا نكتشف السبب الحقيقى للرفض الفرنسى لإزالة تمثال شامبليون! فإزاحة التمثال تاريخيًّا تعنى حتمية مناقشة خطأ شامبليون لغويًّا وبحثيًّا، ومن ثم خطأ تخليده بتمثال بارتولدى الموثّق لخدعة تفوقه برمزية دعسه لرأس الملك، بما يسحب الفضل الأثرى من فرنسا وعلاقتها الأبدية بالحضارة المصرية القديمة، وهدم رؤيتها لشاهد رد الصاع لإنجلترا، وانكماش الهالة المقدسة برأس بعثاتها الأثرية الحالية. إذن يخفى بقاء تمثال شامبليون محافظة فرنسية على تاريخ، ولو خطأ، ولو ضد حقوق الإنسان، ولو ضد مشاعر مصر والمصريين!

لذلك فتمثال شامبليون إشكالية فنية، تاريخية، علمية، سياسية، ثقافية لم تنته! وتبرير بارتولدى صنيعته “أردت أن أجعل شامبليون مثل أوديب ينتزع السر من أبو الهول”، يناقضه ثبوت عدم انتزاعه، بل خطئه فى ذلك! بما يسحب منه حصرية الاكتشاف، وأسطورته التاريخية حتمًا تُصحح، والرموز الفنية الدالة على أسطورته، تنقلب لأدوات مزيفة للوعى الجمعى العالمى (الأثرى والشعبى والفني).

من جهة أخرى يخفى التمثال مسئولية فنية تقصيرية على بارتولدى، لإساءته شكل حرية الإبداع، بتسخير فنه للانتقام من الخديو إسماعيل، فى مضمون تفوق شامبليونى مشكوك فيه وأثبت العلم والأبحاث خطأه! بل إخفاء توفر أخطاء فنية ذاتية “بشكل” التمثال، يوثق أخطاء بارتولدى كإنسان يمتهن النحت واستخدمه بغرض الإضرار بإسماعيل ومصر. لذلك فمحافظة فرنسا على التمثال تتجاوز خطأ بارتولدى بسرقته تصميم لوحة أنجوس (أوديب وأبو الهول)، وتعمّده الإهانة باستبدال الحجر بلوحة أنجوس برأس الفرعون فى تمثاله، تتجاوز ذلك لحماية (مكاسب تاريخية) باسم حرية الإبداع ولو وثقت أخطاء ما دامت مستفيدة منها!

أفردت فى مقالاتى السابقة عدة أوجه وتحاليل فنية وتاريخية وقانونية لأزمة التمثال، ولكن ما يخفيه استمرار وجوده ومكافحة إزاحته، هى فرص تصحيح التاريخ، وهدم الأسطورة، وتقرير مبدأ قانونى جديد فى المسئولية الفنية التقصيرية للفنان التشكيلى، وإعادة تقديم الصورة الذهنية لمصر بنجاح تصدّيها لخطأ وضرر قديم اكتشفتهما فى 2023، وصحوة المصريين لإيقاظ وعيهم الجمعى لإدراك الحقائق عندما تُعرَض بصورة موضوعية موثَّقة.

ينصحنا فرانسيس بيكون (لا تقرأ لتهاجم وتعارض، ولا لتجد ما تتحدث عنه، بل لتزن وتفكر. افتح ذهنك وحلل الموقف من وجهة نظر محايدة تجتمع فيها أدلة واقعية، فحينها فقط سيكون الحكم نابعًا من منطق سليم ودون انحياز). إن قضية تمثال شامبليون يُمعن فى إخفائها فى الأضابير والشكليات، وجدليات الغضب الشعبى العاطفى، والميديا قليلة الحيلة، أمام الرفض الفرنسى المتبنّى رمزية التمثال كتعبير عن الروابط الفرنسية المصرية ودليل المناخ الثقافي.

فرق كبير بين انفعال شعورى غير ممنهج بامتهان الكرامة المصرية، وبين إدارة قضية وطنية تمس تزييف تاريخ علمى، وأضرار متنوعة من مسئولية فنية مثبتة، وخروج استعمارى لحجر رشيد آن رجوعه، وتصحيح لصورة ذهنية خادعة عمرها 200 سنة ومخطط لدهريتها إخفاء لأغراض إستراتيجية.

آن لمصر والمصريين كشف ما خفى، ومحاسبة من أخطأ، ورفع أضرارها. وأترك للقارئ الكريم الحكم على من يخالف ذلك!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]