كلمة العقادعن ديوان أنت أنت

كلمة العقادعن ديوان أنت أنت
رجائى عطية

رجائى عطية

6:24 ص, الثلاثاء, 25 يونيو 19

تضمنت مجموعة «بحوث فى اللغة والأدب» فيما تضمنته كلمة للأستاذ العقاد، ألقاها بجلسة مجمع اللغة العربية فى 30/5/1957، عن ديوان «أنت أنت» للشاعر «محمد على الحومانى» الفائز بجائزة الشعر الأولى فى مسابقة المجمع فى الشعر لعام 1956/1957.
■ ■ ■
استهل الأستاذ العقاد كلمته بأن الشعر المعاصر فى الآداب العالمية على اجمالها، فى حالة غريبة بين القوة والضعف، أو حالة متوسطة بين القوة والضعف، ووجه الغرابة فيها أنها تخالف عهود القوة والضعف والانتقال بينهما فيما تقدم من عصور الشعر، فلا هى إلى هذه، ولا هى إلى تلك، ولعلها أدنى أن تكون حالة نقاهة بعد مرض، أو بعد تخبط وزيْغ.

ولا خفاء فى منشأ علة المرض أو التخبط، لأنها من عوارض الحرب العالمية الأولى، وما كادت تتميز على شكل من الأشكال حتى لحقت بها الحرب العالمية الثانية فازدادت خلطًا وتخبطًا.

ويبدو أن الشعور بهذه الحقيقة هو بدء النقاهة بعد المرض أو التخبط، وفاتحة الهداية بعد هذا التخبط، مما جعلها لا تشبه حالة القوة، ولا تشبه حالة الضعف، ومن هنا غرابتها فى تاريخ الآداب.

وقد كثرت البدع والأفانين فى الربع الثانى من القرن العشرين، وتعددت أسماء المذاهب الأدبية وعناوين الدعوات الفنية فى ثقافة الغرب، وكان من النتيجة التى انتهت إليها غلبة عوامل الخلق والجد فى الشعر على عوامل الاختلاق والعبث، والمقياس الصادق فى التفرقة بين الصالح والفاسد من كل منهن، الرجوع إلى مقياس طبيعة الإنسان الخالدة.

وبعد اشارة إلى ما أبداه الناقد « إريك سيلين » Eric Sellin أستاذ الأدب الفرنسى المعاصر فى جامعة بنسلفانيا، واحتفال روسيا فى هذا العام (آنذاك) ببلوغ الشاعر «صمويل مرشاك» Marshak سن السبعين، وما اختاره من قصائد يصف بها الرجل الأحمق، خلص الأستاذ العقاد إلى أن الشعر القويم على الجملة هو الشعر المطرد فى المجرى العميم بما يحتويه من جديد وقديم، ومنه ديوان « أنت أنت » الذى نظمه الأستاذ «محمد على الحومانى»، والذى خصه مجمع اللغة العربية بجائزة الشعر هذا العام بين ما وصل إليه من دواوين.

ويتبين من موضوعات القصائد فى شعر الأستاذ الحومانى، أن صاحب هذا الشعر قد تفتحت له نوافذ النظر إلى العالم العصرى فى حياته الواقعية، لأنه جال فى أنحائه من مشرقه إلى مغربه، وشهد الكثير من أحداثه وأطواره فى وطنه العربى على اتساعه، وفى سائر الأوطان الغربية، وأن حسبه أن يلامس هذه الحياة فى هذه البيئات المختلفة، ليمس العالم العصرى كما يبدو للشاعر العربى.

ويحق لمن جرب هذه التجارب الواقعية، أن يكون له مذهبه فى المحافظة والتجديد على نمطه، هذا ولن يكون الشاعر مجددًا حقًّا إلاَّ إذا كان له أسلوبه فى التجديد.
يقول الشاعر لمن يحسبون أن التجديد يقضى على القديم ويوجب تبديل كل معهود : هل جددت طعامًا غير الخبز وشرابًا غير الماء ؟ أو غير الماء جددت شرابًا مستطابًا؟
ثم يقول مفاخرًا بالرجعية المنسوبة إليه متحديًا بها من لا يفهمها :

أنا يا مارق رجعى
طريفًا وتليدًا
أنا مفطور على هذا
قيامًا وقعودًا
كيف أنفك عن الرجعى
تراثًا وجدودًا
إنها ملء دمى مجدًا
وإن ظنت جمودًا
أبت الجدة فى رأسك
كفرًا وجحودًا
لا أرى الجدة إلا
أن أرى قومى أسودا
وأرى الروعة فى الجدة
نارًا وحديدًا
وتغشينى مع الليل
ركوعًا وسجودًا

وقد استحق الشاعر فيما ينوه الاستاذ العقاد وصف الرجعية عند من عابه بها، لأنه خاطب النبى عليه السلام بصفوة صالحة من قصائد الديوان، وهو خطاب لم يمنعه من أن يودع مناجاته كل ما تجيش به النفس من الأمل والشكوى، وأن يكون مجددًا واقعيًّا فى أمله وشكواه، لكن وصف الرجعية إنما أصاب الشاعر عذر من عابه بها، لأنه وجه الكلام إلى نبى الإسلام، وقد ولد قبل ألف وأربعمائة عام.

على أن الأستاذ الحومانى فيما يعقب الأستاذ العقاد ينظم فى مقاصد الشعر المنوعة كما ينظم فى مناجاة النبى عليه السلام، ويجيد فى الوصف والحماسة والشئون الاجتماعية والغزل إجادته فى التوسل والدعاء، وشاعر « أنت انت » هو الذى يقول فى حواء الملهمة :

أباعثتى قبل الأربعين
جديد الصبا قلق المضجع
مشت بى أيامك القهقرى
من الأربعين إلى الأربع
ويمزح إذا شاء فيقول من الأربعين إلى أربع!
وهو القائل عن «الكوْنا» أو الحصة التجارية فى التموين ويسميها باسمها على ألسنة أصحابها :
يا لها عينًا ترى الظمآ
ن فى القفر العبابا
كلما زادته قربًا
منه زادته التهابا
■ ■ ■
فإذا العين زجاجا
وإذا الماء سرابا
ويقول فيها من القصيدة بعينها:
أنت يا كونا تباركـ
ت فصفحناك قوتا
■ ■ ■
وحشوت الحماء الواد
ع منا جبروتا

ولهذه القصيدة فيما ينوه الأستاذ العقاد قافيتان كما رأينا: بائية وتائيّة، وهذه الوسيلة بتعديد القافية فى البحر الواحد، هى إحدى وسائل الشاعر فى التصرف فى الاوزان مع التصرف بالأعراض والموضوعات.

وغير هذه الوسيلة فيما يختم الأستاذ العقاد كلمته وسائل أخرى من قبيلها أراد بها الشاعر أن يقرن التصرف بالمبنى إلى التصرف بالمعنى، وأضاف من ثم حجة جديدة إلى كفاية الشعر العربى لمجاراة أشعار الأمم فى عصرنا، ومثل هذا التصرف السائغ من هذه المحافظة المحمودة جدير بتقدير مجمع اللغة العربية الذى أعطاه الجائزة المستحقة.