ما إن تخطو بقدمك داخل قاعة الاطلاع بمكتبة الإسكندرية، حتى تفاجئك قطعة ضخمة من كسوة الكعبة الشريفة، منسدلة برهبة فوق لوح أفقي مسطح، وكأنها تحرس آلاف الكتب التي تحيط بها من كل اتجاه، لحظة من الصمت تسيطر على الزائرين، بعضهم يقترب بتردد، وآخرون يلتقطون الصور، فيما يظل البعض متأملاً في هذا اللقاء غير المتوقع بين أقدس رموز العالم الإسلامي وأعظم صرح ثقافي في التاريخ الحديث.
دهشة اللقاء الأول
في اللحظات الأولى، ربما لا يدرك الزائر تمامًا ما يراه وسط الأرفف المليئة بالكتب والمقاعد المخصصة للباحثين، تظهر الكسوة كعنصر بصري قوي يفرض نفسه على المكان، بلونها الأسود المطرز بخيوط الذهب، وكأنها نافذة تربط بين العلم والإيمان، بين التراث الإسلامي والفكر الإنساني المفتوح.
الأجانب وعدسات الكاميرا
وعلى بعد خطوات من ستار باب الكعبة ، مجموعة من السياح الأجانب يقفون حول القطعة الثمينة، بعضهم يتفحص الزخارف والنقوش القرآنية المتقنة، وآخرون يبحثون عن الزاوية المثالية لالتقاط صورة تذكارية، تساؤلات تدور في الأذهان: كيف وصلت هذه الكسوة إلى هنا؟ ولماذا تحتل هذه المساحة البارزة في قاعة الاطلاع؟
تاريخ محفور في الخيوط
القطعة المعروضة ليست مجرد نسيج فاخر، بل جزء من تقليد يعود لمئات السنين، حيث كانت تُنسج كسوة الكعبة يدويًا في مصر، قبل أن تنتقل صناعتها إلى السعودية لاحقًا، كل خيط فيها يحمل تاريخًا، وكل زخرفة تحكي قصة من قصص الحرفية الإسلامية الرفيعة، وكأنها جزء من كتاب مفتوح أمام الزوار، لكن بلغة مختلفة، لغة النقوش والخيوط الذهبية.
تناقضات المكان
داخل قاعة تحتضن كتبًا وأبحاثًا تغطي مختلف العلوم والثقافات، تأتي هذه الكسوة كعنصر متفرد، تضيف بُعدًا روحانيًا في مكان عقلاني بامتياز، ربما لهذا السبب يقف أمامها البعض طويلًا، وكأنهم يحاولون فك شفرة هذه المفارقة الجميلة بين قدسية المعنى وانفتاح المعرفة.
التقت “المال” مرشدة الجولات السياحية بمكتبة الإسكندرية، رودينا عبدالله، والتي أكدت أن كسوة الكعبة المعروضة في قاعة الاطلاع بالمكتبة وصلت إليها عام 2021، كهدية من رجل الأعمال يشار حلمي، الذي أهدى المكتبة كلًا من الكسوة والمحمل الشريف.
وأوضحت أن الكسوة المعروضة تعود إلى عام 1928، وهي مصنوعة من الحرير الأسود ومزخرفة بخيوط من الذهب والفضة، تحمل آيات من القرآن الكريم، مشيرة إلى أن المعروضة ليست الكسوة الكاملة للكعبة، بل جزء منها يسمى “ستار باب الكعبة”، وهي كسوة أصلية عثمانية.
وأضافت أن المحمل المعروض هو ذاته الذي حمل هذه الكسوة في نفس العام، مشيرة إلى أن المحمل كان يستخدم لعدة سنوات، بينما يتم تغيير الكسوة سنويًا.
ووصفت المحمل بأنه هيكل خشبي على هيئة هودج هرمي الشكل، مغطى بالحرير الأسود ومزين بخيوط من الذهب والفضة تحمل آيات قرآنية.
وأكدت عبد الله أن الكسوة والمحمل كانا إهداءً من اللورد يشار حلمي لمكتبة الإسكندرية، ليكونا جزءًا من مقتنياتها التاريخية النادرة.
أثر اللحظة
تترك هذه القطعة في ذاكرة الزائر أثرًا يصعب نسيانه، البعض يشعر بجلال اللحظة، والبعض ينبهر بجمال الصناعة، بينما يخرج آخرون بأسئلة جديدة عن العلاقة بين الإيمان والعلم، وعن دور المكتبة في حفظ ليس فقط الكتب، بل أيضًا الرموز التراثية التي تحمل قيمًا إنسانية عميقة.
وفي غضون ذلك التقت “المال” أحمد محمود، زائر من القاهرة والذي أكد قائلاً “لم أتخيل أن أرى قطعة من كسوة الكعبة في مكتبة الإسكندرية، هذا المشهد يخلق حالة من الروحانية وسط هذا الصرح الثقافي”
وقال سامي خلف، باحث تاريخي: “هذه الكسوة ليست مجرد قطعة قماش، بل شاهد على تاريخ طويل من الاهتمام بالحرمين الشريفين، ووضعها في المكتبة يعكس فكرة الجمع بين القدسية والعلم في مكان واحد.”
وأشارت السيدة ليلى حسن، زائرة من الإسكندرية: “أحب زيارة مكتبة الإسكندرية، لكن هذه المرة التجربة كانت مختلفة، فرؤية الكسوة بهذا الشكل أضافت بُعدًا روحانيًا للزيارة.”
أما يوسف علي ، مصور فوتوغرافي أكد أن المشهد يحمل تناقضًا جميلاً بين الحداثة والتراث، قائلاً “التقطت صورًا عديدة، لكن تظل رهبة المشهد أكبر من أن تُترجم بعدسة الكاميرا.”
ووفقاً لما رصدته” المال” فإن أكثر ما يلفت الانتباه هو ردود فعل الزوار عند رؤيتها فالبعض يقترب في هدوء، والبعض الآخر يلتقط الصور، لكن الجميع يتشارك نفس الشعور بالدهشة والتقدير.
وفي النهاية وما بين الكتب والكسوة، تظل مكتبة الإسكندرية تقدم لزائريها تجربة استثنائية، حيث يلتقي التراث بالحضارة، ويتجاور الماضي مع الحاضر، في مشهد يفتح الباب أمام التأمل والتساؤل، ربما لهذا السبب، تظل هذه المكتبة أكثر من مجرد مكان للقراءة، بل مساحة حية تعيد تشكيل نظرتنا للعالم، بطرق لم نتوقعها.