يبدو للعقاد أنه كما حملت «الموافقات» والظروف- هتلر إلى سدة الحكم، فإن الأفكار السياسية التى تبناها لم تكن من ابتكاره ولم تكن من صياغته، وكانت شائعة فى قومه قبل عهده بجيل أو جيلين.
فالجامعة الجرمانية التى تغنَّى بها هتلر، ظهرت فى موطنه قبل مولده بنحو ثمانين سنة، ودعا إليها الفيلسوف «هردر Herder» والفيلسوف «فيخته Fichte» منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأسهبا فيها بمزايا الجنس الجرمانى وفضله، وأن لغته هى لغة الحكمة والفلسفة والعلم بحقائق الأشياء، وأن حكومته هى دون غيرها التى قدرتها عناية الله لقيادة الأمم سواء بالقهر أو بالإرشاد. وما من كلمة تغنَّى بها هتلر إلاَّ ومرجعها إلى محاضرات «فيخته» الأربع عشرة التى ألقاها سنة 1807.
ومن قبل الحرب العظمى الماضية، ظهرت دعوة «هر كلاس Her class»، واقترنت بها دعوة مشابهة عرفت تارة باسم «أوروبا الوسطى»، وتارة باسم «الزحف على الشرق»، وفى شرحها الوافى بكتاب «فردريش نوما Naumann Friedrish»، أن التهام أوروبا الوسطى قد يتأتى بمجرد الإرهاب بغير قتال.
أما قداسة الجنس الآرى، فقد بشر بها آخرون منذ منتصف القرن التاسع عشر قبل مولد هتلر بنحو أربعين سنة، وفيها ألف الإنجيلزى «هوستون ستيوارت شمبرلين»، الذى تجرمن وتزوج ببنت «فاجنر» الموسيقار الجرمانى الكبير، وألف كتابه «أساس القرن التاسع عشر» الذى أشاد فيه بالعبقرية الألمانية.
والحركة النازية ذاتها سابقة بجملتها وتفاصيلها على هتلر، فقد ظهرت فى أوائل القرن التاسع عشر على يد «Vater Jahn» الخطيب المتهوس الذى نظم فى ألمانيا فرق القمصان الرمادية والأندية الرياضية، وبلغ من جنونه أن أشار بإقامة السدود بين ألمانيا وفرنسا، وبغرس الغابات التى تملأها الضوارى والسباع لصيانة الدم الألمانى من التلوث بأوشاب الأمم الأخرى!
وعلى جهل هذا الرجل وفراغ عقله، أهدت إليه جامعات ألمانيا ألقاب الشرف العلمية والفلسفية. ولم يتورع الأدباء والشعراء عن تمجيده، وقال فيلسوفهم «ترتيشكه Treitschke» : «إن هذه الحركة ذات جذور متأصلة فى قراره الخليقة الألمانية».
ولم يكن هتلر أول الداعين لعداوة اليهود، فقد كانت مذابح اليهود فى أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية أقدم من مولده بمئات السنين.
كذلك الصليب المعقوف «شارة النازية»، لم يخترعه هتلر بل اقتبسه من الجنود الألمان الذين عادوا من «فنلندا» بعد أن حاربوا فيها الجيش الأحمر، ولم يتغير فيه سوى لونه من أزرق إلى أسود.
وما حركة القمصان فى ألمانيا الحديثة، إلاّ نسخة مستعارة من حركة القمصان فى إيطاليا الحديثة. كذلك الفلسفة النازية لا سيما فى حملتها على الديمقراطية، فهى محاكاة للحكم التيموقراطى Timocracy الذى ذكره أفلاطون، وصفة الرجل فيه أن يكون غليظًا فى معاملة العبيد، وألاَّ يتوسل للحكم بالفصاحة بل بالسلاح.
وأعجب من ذلك فيما يقول العقاد- أن هتلر لم ينشئ الحزب الذى صار رئيسًا له، بل أنشأه «دركسلر Drexler» وبعض رفاقه، ولم ينشئ فرقة واحدة من فرق الجيوش الأهلية كفرقة القمصان البنّية أو الحرس السوداء، بل أنشأها بعض الضباط القدماء.
ليس إذن فى سيرة هتلر أو فى فكره ما يتبوأ به زعامة حقيقية، وإنما تقلد هذه الزعامة لكونه «الأنسب» وفرق عظيم بين الأقدر والأنسب!
ومن الوهم الكبير ما جرت به الدعاية النازية بعد احتلال وادى الراين والنمسا، أن زعيمهم لا يخطئ. فلا تقدير ولا حساب لغلبة ثمانين مليونًا لسبعة أو لثمانية ملايين، فتلك بديهية لا تنم عن دقة حساب، وإنما الحساب الصحيح أن يمضى هتلر فى سياسته دون أن يوقظ خصومه أو يلجئهم إلى عزيمة الحرب، وهذا هو ما تردى فيه، وهو ولا شك أفشل حساب، وكل خططه وخطواتة وحساباته تشهد بذلك!
لماذا اختاروه ؟
يسبق هذا السؤال سؤال واجب : من الذى اختاره ؟ وما معنى اختيارهم إياه ؟ لم يكن الثمانون مليونا هم الذين اختاروه، ولا كان معناه أن مؤسسى الحزب النازى امتلكوا السيطرة على الأمة الألمانية بأسرها، ولا أنهم أصحاب ميزان لا يختل ولا يخطئ، وإنما معناه أن خمسة أو ستة من المشتغلين بالسياسة نظروا فى متناول أيديهم فوجدوا فى هتلر الشروط التى يطلبونها.
ألاّ يكون من طبقة النبلاء، لأن السخط عليهم كان على أشده، وكان هتلر فقيرًا من أبناء الموظفين الصغار.
وأن يكون خاليا من الروابط الاجتماعية وكان هتلر كذلك، ولا يخسر شيئًا من التفرغ لصناعة السياسة المطلوبة.
وأن يكون موافقًا للبيئة البافارية، وهى بيئة محافظة قريبة إلى أحزاب اليمين، لأن البافاريين تابعون للكنيسة الكاثوليكية ونفوذها بينهم عظيمًا، وكان هتلر كاثوليكيا فى نشأته وإن لم يكن من المتعبدين، وكان مجندًا فى جيش بافاريا.
والشرط الرابع، أن يكون «مهاودًا» لزملائه، أو لا يكون من الشخصيات المخيفة المهيبة المرهوبة، وكان ذلك حال هتلر فى ذلك الوقت.
لا يعنى ذلك أن هتلر محروم من العزيمة والإرادة، ولكنها لم تكن من النوع الكاسر الذى يروع لأول نظرة، وإنما أشبه بالعزيمة التى تصل بالدأب والإلحاح والعناد إلى ما تريد. أما ما صار إليه حين تسلم السلطة لسنوات وجمع المقاليد فى يده، فإنه لم يكن حاله أو حاله الظاهر فى البدايات.
هذا عن الشروط «السلبية» أما الشروط التى تدخل فى باب «المزايا»، فهى الخطابة والحماسة والذكاء والاهتمام بالسياسة والإلمام بالمعارف العامة، وكانت موفورة فى هتلر الجهورى الصوت الشديد العصبية الجرمانية العظيم اللدد فى الخصومة الحزبية، الذكى الملم بمبادئ الأحزاب المختلفة.
ولندرة اجتماع هذه وتلك من الشروط، رحب به القلائل المبتدئون الذين لم يبلغوا بعد مبلغ الهيمنة على عقول السواد، فكان هذا الاختيار ثم سرعان ما تكشف عندما كبر الحزب، أنه فى حاجة إلى كثير من التشذيب، فبذل له على نظام تحضير الممثل لدوره المرسوم، وخلاصة الأمر أن زعامة هتلر معناها أنه وافق المطلوب فى حدود الطاقة، وأنه حين استقر فى الزعامة لم يعد من السهل إجلاؤه عنها!
( يتبع )
Email: [email protected]
www.ragai2009.com