قضية إقصاء شامبليون بين القانون والاحترام الثقافى!

محمد بكري

9:44 ص, الأثنين, 30 ديسمبر 24

محمد بكري

محمد بكري

9:44 ص, الأثنين, 30 ديسمبر 24

فى 2025 سيحتفل تمثال شامبليون بعيد ميلاده الـ150، داعسا بحذائه الأيسر على رأس ملك مصرى (فى الأغلب رمسيس الثاني)! على مدار 36 مقالا موضوعيا منذ ديسمبر 2022، أظهرت العديد من الجوانب المكتنفة لنسخة تمثال شامبليون 1875 للنحات الفرنسى أوجست بارتولدي، بمدخل السوربون بالكوليدج دى فرانس بباريس، شملت الجوانب التاريخية، الفنية، القانونية، المستندية، حالات المثل عالميا، الضرر التاريخى والنفسى والأدبى المحيق بالمصريين ووعيهم الجمعي، تفنيد آراء مؤيدى ومعارضى التمثال، وقدمت عنه عدة محاضرات بالقاهرة وفرجينيا بأمريكا، وما انتهيت له لإمكانية إثبات عناصر المسؤولية الفنية التقصيرية على بارتولدى فيما نفذه بنسخة التمثال 1875 (وكانت نسخته الأصلية بمدخل معرض باريس الدولى 1867 عن الحضارة المصرية القديمة، ترتيب واختيار ميريت باشا). وبغض النظر عن نية باتولدى بالنسخة المُسيئة، التى ربما لم تقصد الإساءة، أو محاولته إيصال رسالة معينة فى سياق فنى وتاريخى محدد، إلا أن الواقع التاريخى العملى والإنسانى، يكشف ويثبت توفر حالة إهانة ونيل وإساءة رمز ملكى لمصري، يوخز كرامة مصر والمصريين، بصورة لا يمكن السكوت عنها أو تجاهلها أو التعايش معها، حاليا أو مستقبلا!

على صعيد آخر، فمن الثابت والموثق تمتع العلاقات المصرية الفرنسية، بأواصر عميقة تاريخية، وثقافية، وعلمية، قدمت فيها فرنسا مساهمات جادة لكشف وتوثيق ودعم التراث المصري، بداية من علماء الحملة الفرنسية، وجهود شامبليون لاستكمال أبحاث من سبقوه لفك رموز الهيروغليفية، بخلاف بعثات التنقيب، وزخم الإعلام المصرية التى درست فى فرنسا، ونقلت للأدب والعلوم والقانون والثقافة المصرية العديد من مفاتيح الثقافة والمفاهيم الفرنسية، بالتوازى مع الدعم السياسى والعسكرى الفرنسى لمصر بالعديد من المحاور المؤثرة، بما جعل هذه العلاقات جديرة بالمحافظة عليها وتنميتها فى اتجاهها الصحيح. فمصر دائما ولع فرنسي، وفرنسا دوما حليف مؤثر، وهذه أساسيات لا تغيب عن أى منصف أو مُقيم لعلاقة البلدين.

من جهة أخرى، فقضية تمثال شامبليون تمثل “التهابا” يعترى جسم العلاقة بين البلدين، ولم يتم علاجه حتى الآن بصورة موضوعية أو قانونية محترفة، بوصفه مسألة تاريخية ثقافية فنية بحتة، وليست بحال محاولة للتعدى المصرى على حرية التعبير الفنى أو التاريخ والثقافة الفرنسية ككل! فهناك فرق كبير بين توجيه الغضب المصرى لفرنسا، وبين توجهيه لتمثال مُسيء فى سياق معين ولأسباب موضوعية محددة، كفل لها القانون الفرنسى ذاته إمكانية مراجعة هذه الإساءة وتصحيحها إن ثبتت. وهنا لموضوعية التناول والمناقشة يلزم ترسيم حدود قضية نسخة تمثال شامبليون 1875، لتحجيم أطرافها ومعناها والصفة والمصلحة فيها، وسند إقامتها، وعواقبها على البلدين.

بداية؛ فمصر والمصريون لا يطالبون بمحو تاريخ شامبليون أو تقليل دوره بفك رموز الحضارة المصرية، أو دور فرنسا بدعم اكتشافات التراث المصرى القديم وتأسيس علم آثار المصريات، كذلك لا تتدخل مصر أو المصريون بالشأن الفرنسى لحمايته وتوقيره لتاريخه ورموزه وآثاره وأعماله الفنية، أو تتعرض لحرية الإبداع والتعبير بفرنسا، ولكن القضية موجهة ضد عمل فنى محدد هو نسخة تمثال شامبليون 1875، بما تحمله من رمزية مادية محددة هى “وضعية الحذاء على رأس ملك مصري”! والنقاش هنا حول هذه الوضعية بشكلها المادى المباشر بما يرسله من رسائل ومعانٍ، يلزم أن نفصل عنها كلية معنى ودلالة الحذاء بالثقافة الفرنسية، أو نية ومحبة وتقدير بارتولدى لمصر والتاريخ المصري! فنحن بصدد عمل فنى قائم بذاته يمثل واقعة مادية/ فنية مستمرة، طالما هى متاحة للجمهور فى مكان عام خاصة إذا كان جامعة عريقة بها قسم خاص رئيسى عن المصريات. وعليه؛ فمحدد أطراف القضية هم مصر والمصريون ضد النحات أوجست بارتولدى ووزارة الثقافة الفرنسية (المسؤولة عن التاريخ الفنى الفرنسي) ووزارة التعليم الفرنسية التابع لها الكوليدج دى فرانس المقيد على ذمة ممتلكاتها التمثال المسيء. ومراجعة الوزارتين بهذا المقام لا تشكل تحديًا أو تدخلًا ضد الإرادة الفرنسية لحماية آثارها أو عدم المساس بها، ولكن بصفتهما المقيد على ملكيتهما التمثال المسيء، والمتعين عليهما إصدار قرار فى الشكوى ضد إساءته أو تنفيذ الحكم القضائى بإقصائه.

فى هذا الإطار الفنى والثقافي، يمكن تفهُّم الموقف المصرى من التمثال كعمل فنى مسيء، أتاح القانون الفرنسى ذاته الحق لمراجعة وصفه وصفته طبقا لمعايير محددة، تم تطبيقها قضائيا مسبقا وصدرت فيها أحكام قضائية بإثبات صفة الإساءة لبعض التماثيل وإقصائها من مكانها. لذلك من المهم الفهم الصحيح للطلب المصرى تجاه هذا التمثال (بإقصائه) وليس إزالته، لما يتضمن فعل الإزالة من شبهة التدمير أو التكسير، فمصر والمصريون أبعد ما يكونان عن أفعال التشويه أو المسخ أو التدخل المادى بعمل فنى له قيمته الفنية الذاتية، ولكن معناه يسيء لكرامة واحترام وتاريخ مصر والمصريين، وهم بذلك أصحاب حق لإقصائه أو استبعاده كعمل فنى مسيء تُثبت إساءته، لما يبثه من رمزية ورسائل عنصرية ثقافية صريحة ضد التاريخ والحضارة المصرية القديمة، ويُترك للجهة الإدارية الفرنسية التصرف باستبعاده للمخازن، بوصفه مصدرا لاستعداء وتأذى المشاعر المصرية. لذلك فمن المهم حسمها كقضية ثقافية قانونية بحتة، لا تختلط بالعلاقات السياسية أو التاريخية بين البلدين، ويجب عدم السماح لأى طرف باستغلال الموقف لتأجيج التوتر بينهما ثقافيا أو سياسيا بزعم أو وهم رد الإساءة (وهو ما رفضته بشدة لاستخدام الذكاء الاصطناعى لإنتاج فيديو وصور حديثة تستخدم شخص فرعون ضد شخصيات تاريخية فرنسية حديثة).

قضية مصر والمصريين لم تبدأ بعد – حتى نهاية 2024 – للمطالبة أو الشكوى القانونية السليمة، لمخاطبة جهات الإدارة الفرنسية المعنية، بالطرق التى رسمها القانون الفرنسي، بمطالب محددة إزاء التمثال المسيء، استنادا لحق قانونى أصيل كفله القانون لإعادة توصيف الأعمال الفنية المسيئة إذا تم إثباتها. لا يسعى المصريون للتصادم او التدخل بالشأن الفرنسي، ولكنهم يسعون لاستخدام حق قانونى مشروع للدفاع عن كرامتهم وتراثهم من وجهة نظرهم، بإثبات خطأ بارتولدى والأضرار التى عادت وتعود عليهم، من استمرار وجود تمثال شامبليون بوضعيته المهينة لمصر، والمصريين السابقين، والحاليين، واللاحقين. فإذا كانت الحضارة المصرية جزءًا جوهريًا من التراث الإنسانى العالمى الذى يتشارك العالم فى احترامه وحفظه، فليس أقل من أن تتخذ مصر والمصريون خطوات جادة لتقديم هذه الشكوى بغض النظر عن نتيجتها، كسرا لصمت مريب! تختلط فيه المصالح والضغوط وخلط الأوراق، لتُكسب شامبليون العار عمرا جديدا فى 2025! فهل يشهد العام الجديد صحوة مصرية لإطلاق قضية تلتف حولها قلوب المصريين، ويكون فى إقصاء رمزية تمثال العار ما ينفض عنا غبار تواكل وصمت نجح الحذاء الشامبليونى فى إقناعنا بقبوله حتى الآن؟

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]

محمد بكري

محمد بكري

9:44 ص, الأثنين, 30 ديسمبر 24