جماعات على غرار «بلاك بلوك» ظهرت قبل ثورة يوليو 1952، معلومة قد تثير الدهشة والتعجب، لكنها حقيقة تاريخية، ذلك أن ظهور جماعات وتشكيلات منظمة شبه عسكرية، ترتدى زياً موحد اللون، وتتوعد المنافسين السياسيين، وتواجههم فى الشوارع والميادين، ليست ظاهرة جديدة فى الحياة السياسية المصرية، ويؤكد الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ المصرى المعاصر، أن هذه الظاهرة عرفتها مصر أول مرة فى ثلاثينيات القرن الماضى، وانتقلت إليها من التجربتين الألمانية والإيطالية، فمن أجل مواجهة التيارات الديمقراطية والشيوعية، كون هتلر فرقاً من أعضاء الحزب النازى، ترتدى قمصاناً بنية، وتحمل شارات النازية «الصليب المعقوف»، لتمارس العنف والبطش ضد خصوم هتلر، ونفس الفكرة تبناها موسيلينى فى إيطاليا، وكانت فرقه ترتدى القمصان السوداء.
![]() |
وانتقلت هذه الظاهرة إلى مصر على يد أحمد حسين، عندما شكل جماعة «مصر الفتاة»، فقد كان معجباً ومتأثراً بهتلر، حتى أنه ألف كتاباً على غرار كتاب هتلر الشهير «كفاحى» سماه «إيمانى»، وأنشأ أحمد حسين تنظيم «القمصان الخضر»، على شاكلة فرق «القمصان البنية» النازية.
وكان حسين- الذى نقل هذه الظاهرة الفاشية إلى مصر- ذا خلفية إسلامية، لذلك عندما قام بتحويل جمعيته إلى حزب سماه «الحزب الوطنى القومى الإسلامى»، كما أنه ارتبط بالملك فاروق، وكان شعار حزبه هو «الله.. الملك.. الوطن»، ولكنه بعد سقوط النازية والفاشية وانتعاش الشيوعية عقب الحرب العالمية الثانية، سمى حسين حزبه «الحزب الاشتراكى»!
وما إن أنشأ حسين فرق «القمصان الخضر» حتى انتشرت هذه الظاهرة بين الأحزاب المصرية، فكون حزب الوفد فرق «القمصان الزرقاء»، وكانت مهمتها رصد اجتماعات الأحزاب المنافسة كالأحرار الدستوريين أو الهيئة السعدية ليقوموا بتخريبها وفضها بأسلوب «كرسى فى الكلوب».
فى المقابل شكل حسن البنا فرقا مماثلة ترتدى «القميص الكاكى»، وهو لون مرتبط بالجيوش، وكانت هذه الفرق تقوم بما تمارسه حالياً ما يعرف فى بعض البلدان العربية بـ«جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، فكانوا على سبيل المثال، يقومون بفض حفل موسيقى ينظمه بعض الشباب.
لكن أخطر تجليات هذه الظاهرة تمثل فى إنشاء حسن البنا التنظيم الخاص، وارتكب هذا التنظيم المسلح العديد من عمليات العنف السياسى المسلح، والاغتيالات مثل عمليات اغتيال النقراشى والمستشار الخازندار وغيرهما.
وجاءت ثورة 23 يوليو عام 52 لتقوم بحل الأحزاب السياسية وتشكيلاتها المختلفة، لكنها أبقت على جماعة الإخوان المسلمين، لا لكونها جماعة وليست حزباً سياسياً، بل لأن جمال عبدالناصر كان لا يريد التقرب منها لأنه يعلم قدراتها ووجودها فى الشارع، فهم ليسوا مثل الشيوعيين الذين كان وجودهم منحصراً بين النخبة السياسية، إلا أنه سرعان ما توالت الصدامات بين ناصر والإخوان بدءاً من عام 54، فنزلت الجماعة تحت الأرض، وبقيت تشكيلاتها المسلحة فى الخفاء، وإن لم تعد ترتدى القمصان الكاكى.
وعن التشابه بين ميليشيات ما قبل ثورة 52 والوضع الحالى، يشير الدكتور عاصم الدسوقى، إلى أن هذا الأمر يرتبط أساساً بحدة الاستقطاب السياسى فى لحظة تاريخية ما، ويأس بعض القوى السياسية من إيجاد سبل للتوافق من خلال النضال السلمى فقط، فتلجأ بعض الأطراف إلى خطوة إنشاء تشكيل شبه عسكرى، فإن لم تجد رادعاً من قبل الدولة، التى من المفترض أن تكون هى المحتكر الوحيد لاستخدام قوة القهر الشرعى، تنتقل العدوى على الفور إلى باقى القوى السياسية.