أصبحت محاكمة النحات الفرنسى بارتولدى، على تمثاله شامبليون يدعس بحذائه رأس الملك تحتمس الثالث، منذ 145 سنة بساحة جامعة السوربون الفرنسية، هاجسا مؤرقا لتفكيرى بالفترة الأخيرة! أصبحت هما يشاركنى زياراتى ومداخلاتى وأسئلتى لمن حولى، ومؤشرا لدرجة وعى تتبعهم لمعنى استمرار وجود التمثال وآثاره النفسية والحضارية، والثقافية، والمجتمعية على مصر والمصريين. تدريجيا نما هذا الهم كحدبة بظهر وعيى بما يدور حولى، ويغمره موجات الأزمات الاقتصادية والسياسية المحلية والعالمية، وضيق المعيشة، وغيرها من أسباب تحيط بمشاركى همى وتجعلهم يعتبرون مبادرة محاكمة بارتولدى عزفا فى غير وقت سماع!
فى عزاء ضخم بالقاهرة لأحد كبار رجال الأعمال المصريين ذوى المصالح والعلاقات الدولية، تجمعت كوكبة من كبار الشخصيات المصرية والعربية والأجنبية، فى الاقتصاد والثقافة والسياسة والفن والعسكرية، والتعليم، والعمل المجتمعى، والصناعة. قيادات، ومؤثرون، ونجوم مجتمع، وأنصاف مشهورين، كما لو كان العزاء تظاهرة ملحمية تشهد إمكانية تنوع مشارب وعلاقات واهتمامات وتأثير الإنسان فى محيطه. وجدت فكرى بحدبته المهمومة، يقلب النظر بهذا الزخم المعرفى المجتمعى والرسمى، واغتنمت فاصلين زمنيين بين التلاوة القرآنية، لأستطلع محاكمة السيد بارتولدى بين مربع مُعزين شمل مصريين وعربيين، وإنجليزى، وفرنسى، وأمريكي! حيث كان فقيدنا الغالى يشاركنى همى الوطنى بالوجع الشامبليونى، وختمه بمتابعته لمقالاتى الأخيرة حتى نهاية 2022 ومناقشات مطولة عنها قبل رحيله.
فوجدتها مناسبة لمشاركتى المُعزين لآخر حلم له برحيل تمثال شامبليون، إيمانا بمؤامرة النحات أوجست بارتولدى لانتقامه من الخديوى إسماعيل، بجرحه المنحوت للكرامة والاعتبار المصرى. بل وعزم فقيدنا على مد يد العون بصلاته باليونسكو ومعهد العالم العربى بباريس والرئاسة، لعرض الموضوع فى صورته الصحيحة كقضية وعى جمعى مصرى لم يفت أوانها بعد. كان استيعاب الفقيد لعرض المقالات لمفهوم وخطورة قضية محاكمة بارتولدى، تعبيرا حقيقيا عن إيمان المصرى القادر المستنير والواعى، بأهمية إنعاش واستعادة القيم والكرامة المصرية وسط الركام الحالى، ولو غابت وسط الزمن والأزمات. (فاجأنى بإحدى مناقشاتنا بذكر تعرضه شخصيا لموقف غريب جدا سنة 2012 بإحدى مفاوضاته مع شركة تقنية فرنسية، والتى ختمها رئيس الشركة العملاقة بإرساله هدية – لم يستوعب معناها وقتها خصوصا بعد فوزه بالصفقة – نسخة مصغرة من تمثال شامبليون بعبوة فاخرة، مع عبارة مع أطيب التمنيات)!
قصصت هذه الذكرى على مربع المُعزين وأطلقت عينى وأذنى تسجل ردود أفعالهم؟ أثارت القصة الفرنسى وقال بوجه جامد “هذه شيمة اللياقة الفرنسية لغلق الصفقات، هدية تعبر عن الروابط المصرية الفرنسية وعلاقة العلم بالقيادة، هذا تقدير فرنسى لا يختلف عليه”. تلقف الأمريكى التعليق ليقول “هل فاتنى شيء يا سادة؟ أعتقد سمعت شامبليون يضع حذاءه على رأس فرعون مصري! ورغم عادية نشر الحذاء فى وجه المتحدث، بالثقافة الأمريكية والأوروبية كما أظن، إلا أن وضع الحذاء على رأس ملك غير معتاد ولا يعبر عن علاقة العلم بالقيادة! إلا إذا كنت تقصد استعلاء العلم على الحكم، ولا أعتقد أن شامبليون نفسه قصد ذلك أو أراده يوما ما”. سادت فترة صمت قطعها العربى مُعقبا “صراحة لم أكن أعلم بهذا التمثال ولا أقبله كعربى، مصر أم العرب وحضارتها عز لنا بمنطقتنا، ولا أرى مطلقا سببا أو منطقا لدعس مواطن لرأس أى ملك لمجرد كشف أو تطوير، وإلا سنقبل تماثيل دعس المطورين الأجانب لهامات الإمارات، والسعودية، وقطر، والمغرب! المعنى ذاته يا إخوان مريض يحتاج علاجا ناجعا”.
لم يزايلنى الصمت بعدما طرقت باب فكرهم وتعليقاتهم، ليتراجع الإنجليزى بمقعده قائلا “لا تجعلوا الموضوع يأخذ أكبر من حجمه، ولا تنسوا فى غمرة الذكريات أن شامبليون أكمل تفسير حجر رشيد بعد نقله لبريطانيا، وليس بمصر أو فرنسا، ولم نقل يوما إننا ساهمنا فى الكشف! ومع ذلك فأعتقد أن الموضوع سقطة فنية شخصية للنحات زخرفت الواقع الفرنسى بفكرته، وصدقوا معها الرسائل التى يبثها التمثال. لا أنكر الاستهجان المتحفظ لعديد من الدوائر الثقافية والفنية الإنجليزية، ولكنه شأن مصرى أولا وأخيرا لا نتدخل به، رغم مرور زمن طويل شاهدته مئات العقول المصرية المستنيرة بدون تعقيب!”. اعتدل أحد المصريين وقال ببطء وبصوت عميق “أشكرك سيدى لبلورة الموضوع بإنه شأن مصري! هو كذلك فعلا وأعتقد صديقنا الراحل تنبه له لاحقا، كرجل أعمال ومثقف عاصره شخصيا، ولم يجد الوقت قد فات بعد، لإحياء المطالبة برفع خطأ لا يصححه الزمن مهما طال! كصديقى الشيخ (ل)، لم أكن عارفا بأزمة التمثال رغم تكرار زياراتى لباريس، ولكن طرح الأزمة بالميديا من 2013 أظهر حالة من الرفض العاطفى للمشكلة، بدون تصدٍ بمنهجية حقيقية لإدارة الأزمة أو حلها، وأتفق جدا مع مقالات صديقنا الجديد بأن الموضوع قضية وعى ثقافى وحضارى وإنسانى، خارج دهاليز السياسة وحرج العلاقات الدبلوماسية. الفكرة قبول (التصدى المصري) لقضية محاكمة بارتولدى على مستوى الشارع، وليس فقط المكاتبات الرسمية أو تبريرات الحسابات”.
جاء رد المصرى الثانى أكثر موضوعية ووجعا! فعقب بهدوء “رحم الله فقيدنا؛ كان يعلم بحقيقة الوضع هنا وصعوبة التصدى للأزمة لزخم الحسابات المتشابكة سياسيا واقتصاديا وإستراتيجيا والدعم الفرنسى لمصر أمام الأزمة الريجينية! وناقشنا عرض الدعم الحكومى للمشكلة، ولكن هذه الحسابات فرضت نفسها ولو مؤقتا! كان رأيى الشارع لا يحتاج لمزيد من القنابل الموقوتة التى قد يتقاذفها إعلام غير واعٍ، فتنقلب لسخرية العصر أو ضياعها بين حَسَنى النية والمتنطعين وراكبى الترند وسوء إدارة الموقف وصراعات قطف اللقطة! ونصحته بالطرح الخارجى أسعف من المحلى، ولكنه كان رافضا ومؤمنا بالشارع بشكل غريب!”. ختمت بتعليقى لمربع الحديث قبل انتهاء فاصل التلاوة “كعادته لم يتركنى فقيدنا الغالى أواجه بارتولدى وحيدا، بل كما كنت أقول له دوما وفى ذلك فليتنافس المتنافسون! هذه المناقشة تثبت عالمية الحاجة لمحاكمة بارتولدى، ولا عزاء للظروف والأزمات أو الحسابات، أمام قضية الوعى والحضارة والقيم المصرية! لا أختلف أبدا حول دقة التوقيت وحساسية الأزمات وتشوش الوعى الحالى وضعف الإعلام وتداخل الحسابات، ولكن العبرة فى إدارة الأزمة طبقا لأصول (ميكانو) القانون والثقافة والتاريخ والفن وحقوق الإنسان، لتصميم جدارية مصرية للوعى، أحوج ما نكون لبدء تشكيلها فى 2023”.
ولكن العبرة في إدارة الازمة طبقا لأصول (ميكانو) القانون والثقافة والتاريخ والفن وحقوق الانسان، لتصميم جدارية مصرية للوعي، احوج ما نكون لبدء تشكيلها في 2023، حتى نعزفها للعالم في وقت سماع”!
* محامى وكاتب مصرى