فى الحرم
نشر هذا المقال بخواطر الأستاذ العقاد فى الحرم، بمجلة الرسالة عدد 21 فبراير 1946، ومن ثم يغلب أن تكون رحلته إلى الأراضى الحجازية التى حركت لديه هذه الخواطر، فى أوائل سنة 1946 أو أواخر سنة 1945، ومؤدى هذا أنها كانت الرحلة الثانية والأخيرة فى حياته إلى خارج مصر، حيث كانت رحلته إلى السودان سابقة على هذا التاريخ.
وظنى أن الخواطر التى تثيرها زيارة الحرم لمن سبق أن عاش مع السيرة، أعرض مما يمكن أن تثيرها لدى غيره، لأنه يطابق ما يراه على ما كان قد تخيله فى قراءاته، وقد قُيض لى هذا الشعور أكثر من مرة، فى زيارتى للعمرة ثم لأداء فريضة الحج، وكان حافزًا لكتيب أصدرته «من وحى الحج»، لم يكد يمضى على إصداره أربع سنوات، حتى ألهمنى كتاب الأنصار أنشودة العطاء والإيثار. وأكاد من ثم أشعر بالمشاعر التى تحركت لدى الأستاذ العقاد فى هذه الزيارة للأراضى الحجازية.
إنه يبدأ بذكر أول ما راوده فى قراءاته فى السيرة النبوية.
هذه جبال مكة..
وهذا جبل حراء..
بهذا يبدأ بيان خلجاته وهو يمضى فى هذه الرحاب، فيقول إنهم قد بلغوا جبل حراء بعد ساعة ونصف من السير المعقول بالسيارة، وأنهم مروا خلال ذلك بمناظر كثيرة جعلت تذكره بأمثالها فى مسقط رأسه أسوان التى نشأ فيها، ما بين جبال وبطاح ومراعٍ يتخللها العشب فى الأودية والسفوح، وجبال تبدو لهم بألوان المعادن، وبطاح تنم على مجارى مياه فى باطنه القريب.
وقد كان ذلك مألوفًا له، أما الجديد كل الجدة على نظره وعلى نفسه فهو «غار حراء»، وأحسب أن هذه الجدة نتاج ما عايشه فى السيرة المحمدية من خلو النبى عليه السلام إلى نفسه بالغار الراقد فى أحضان الجبل الذى جعل يصفه، فلم تكن الصور المتحركة قد شاعت بالقدر الذى يعوض عن هذا الوصف الذى صارت تغنى عنه لقطة سينمائية أو تليفزيونية.
ولكن الذى لا تنقله أمثال هذه الصور، هو صعوبة المرتقى إلى الغار، والذى لا يبلغه الصاعد إلاَّ بمعاناة شديدة لوعورة المرتقى بين شعاب الجبل.
والحق أن الرؤية فيما يقول غير السماع.
فقد قرأ ما قراه عن الجبل وعن الغار، ثم نظر إليهما، فعلم أن القراءة قد تركت الكثير من فراغ النفس لتملأه هذه النظرة العابرة فى الطريق.. لقد مرَّ كما كان سكان البلاد يمرون من سنوات بعيدة غادين رائحين، غافلين هم والعالم الغارق فى الظلمات، عن ذلك الرجل المفرد الآوى إلى غاره، متوحدًا فى سبيل التوحيد.
ولكنها كانت ساعات ارتبط بها تاريخ أحقاب ودهور، فلما انقضت مدتها لم يبق فى الأرض غافل عن ضيف ذلك الغار، أو جاهل بآثار تلك الساعات التى كان يقضيها فيه، وحيدًا بالليل والنهار.
وحسب الإنسان نظرة واحدة إلى الجبل ومرتقاه، لتحيطه ببعض تلك النوازع الموهوبة التى كانت تنهض بالرسول عليه السلام فى صباه إلى ذروة تلك القمة.
إن النوازع التى حملت الرسول إلى مرتقى الغار، هى السر الروحانى الذى استجاش العالم كله بعد ذلك فى حركة دافقة اقتحمت السدود واخترقت الأسوار والحدود.
انطلق هذا السيل الجارف، من هذا المكان، فى سبيل التوحيد.
يتذكر الأستاذ العقاد كيف مَرَّ ومن معه خاشعين مطرقين، وقد ألهمهم مهبط الوحى هذا السكوت.
وعند الكعبة، ملأ قلوبهم مثل هذا الخشوع، ومثل هذا الرجوع مع الزمن إلى أيام الرسالة وأيام الجهاد.
هنا، هم لا ريب فى مقام قام فيه الرسول الكريم، الذى تعلقت به مقادير التاريخ ومصائر الأمم وضمائر بنى الإنسان.
أنت هنا تقف حيث وقف، وتدعو حيث دعا، وتنظر حيث نظر، وتحوم بنفسك حيث حام.. فى اليقظة لا فى المنام.
قيل لهم هنا مكان يُستجاب فيه الدعاء..
قال ومن معه، هذا أخلق مكان أن يُستجاب فيه دعاء، ودعا كل منهم بدعائه الذى استجمع فيه رجاءه فى الدنيا والآخرة.
يتذكر الأستاذ العقاد أن دعا: اللهم أولنى ما أريد لى وللناس، واجعل الخير كل الخير فيما أريد لى وللناس.
والمنظر الثالث الذى أخذ جماله بمجامع العقاد وهو يؤدى مناسك العمرة، منظر الحمام الآمن الوادع فى ذلك المقام فى جوار البيت الحرام.. يطوف حول الكعبة فرادى وجماعات، ولكنه لا يعلو فوقها.. يظل طوال نهاره فى طواف علـى الأرض وطـواف فـى الهواء، لا يخشى ولا يفزع.
أدب الناس فى هذا المقام المهيب، تعرف سره وتعرف مصدر الوحى منه إلى هذه القلوب.
أما أدب الطير فى هذا المقام فسره عند الله.
حسنٌ أن يأمن الطير وادعًا فى رحاب بيت الله الحرام.
وحسنٌ أن يأمن المساكين كل سطوة فى حرم الأمان.
وأحسن منه أن يجيئهم الوازع من القلوب والعقول، لا من العصى والسياط.
فإذا كان فى تهافت السائلين على صغائر الدنيا غضاضة، فإن هذا الأمان إنما هو لقداسة البيت العتيق، وإنه لمن القداسة أن يتعلم الإنسان منه كيف يجيب من يسألونه وهو يدعو الله ويرجو أن يُستجاب إلى دعائه.
رجائى عطية
Email: [email protected]
www.ragai2009.com