خواطر فى رأس السنة الهجرية
هذه الخواطر ليست عن السنة الهجرية على التخصيص وإنْ حملت اسمها، وانما هى عن التقاويم بعامة، بما فيها التقويم القمرى أو الهجرى حسب المسمى الذى أخذه فى الإسلام، والتقويم الشمسى، ولكنها خواطر طافت بذهن الأستاذ العقاد بمناسبة رأس السنة الهجرية.
وقد وضعت التقويمات الفلكية من قديم لضبط الزمن وتقييد مواعيده وتطويعه للحساب الذى تجرى عليه الشهور والسنون، ولا بد أن تجرى عليه الأحقاب والدهور.
ومن العبر التى يتجه الأستاذ العقاد لإبرازها، أن التقويم الذى كان يُظَن أنه غير صالح للبقاء، هو التقويم الذى ثبت وبقى كما كان يوم وضعه.
وذلك هو تقويم السنه الهجرية!
فمنذ وضع هذا التقويم لم يتغير له نظام، مع أنه قد تغير بعده نظام كل تقويم قديم.
● الشمس بعد القمر.
على خلاف ما قد يظن البعض، فإن مدار التقاويم جميعًا على السنة القمرية، وكان اسم الشهر فى أكثر اللغات مشتقًا من اسم القمر، فكلمة الشهر Month فى الإنجليزية مشتقة من القمر Moon.
وكان تقسيم الأسابيع مأخوذًا من التربيعات القمرية، ثم جاء تقسيم الأيام على حسب أيام الأسبوع، ثم جاء الأسبوع جامعًا لكواكب السماء الكبرى فى تقدير الأقدمين، وقد سبق بيان ذلك فى تناولنا إياها عن كتاب «أثر العرب فى الحضارة الأوروبية».
ثم كبر النوع الإنسانى عن أفق القمر، وتطلع من فوقه إلى أفق الشمس الكبرى. ولكن الإنسان حاول أن يفرض عليها المسير كما يريد أو كما أرادته العقيدة التى يؤمن بها فى ترتيب مواسمه وأعياده وتوقيت عباداته وشعائره. ولم يزل الإنسان مع الشمس فى خلاف إلى هذه الساعة، ودون أن يتقدم خطوة واحدة على مدى سته عشر قرنًا فى طريق الإتفاق.
ففى القرن الثالث للميلاد حاول أحبار الدين أن يوفقوا بين مواعيد الأرض والسماء فلم يفلحوا.
وفى القرن العشرين ينتقل السلطان من أحبار الدين إلى مجالس النواب أو إلى المجالس الدوليه، فحبط القرار الذى أصدره أقدم المجالس البرلمانية، مثلما حبط القرار الذى أصدرته عصبة الأمم، وبقى الخلاف قائمًا فى مواعيد الأعياد بين الأرض من ناحية والسماء من ناحية.
● خلاف.. وأشكال
وحسنًا فعل الدينيون والدنيويون فيما يرى الأستاذ العقاد الذين أعرضوا عن القرارات فى العصر الحديث كما أعرض أسلافهم عن قرارات العصر القديم.
حاول الأقدمون تعديل التقويمات ليجبروا كسر الساعة الناقصة ويمنعوا زحف الفصول مع طول الأزمنه، ولكنهم ينظرون اليوم فى تعديل السنه الشمسية لخلل فى تركيبها وتقسيم أجزائها فيما لا يسهل التغاضى عنه فى عصر تُحسب فيه جداول الطيران بالدقيقة والثانية.
ولم تستقم محاولات تقسيم السنة الشمسية إلى شهرين طويلين، حيث اختلفت عدة أيام أشهر الشتاء عن عدة أيام أشهر الصيف، كما لم تفلح أيضًا فكرة حساب السنة نصفين، حيث يصير نصفها الأول مائة وواحد وثمانين يومًا تارة، ومائة واثنين وثمانين يومًا تارة. ويصير نصفها الثانى أو الأخير مائة وأربعة وثمانين يومًا فى جميع السنين، ومثل هذا التفاوت لا ينتظم عليه الحساب الدقيق فى عصر السرعة والإحصاءات.
● تقويم عالمى
وقد أنشئت جماعة كبرى سميت «جماعة التقويم العالمية» تبلغ فروعها نحو الأربعين بين أقطار الأرض، لتقترح تقويمًا يبدأ فى كل سنة بيوم الأحد، وخلاصة التعديل أن يوضع بعد اليوم الثلاثين من شهر ديسمبر يوم يسمى بيوم «سبت» لتبدأ السنة بيوم «أحد»، ويضاف يوم عالمى آخر بعد آخر شهر يونيو فى السنوات الكبيسة، فيأتى تقسيم الشهور بحيث يشتمل كل شهر على ستة وعشرين يومًا تضاف إليها أيام الآحاد، بحيث تصبح السنة مقسمة إلى أربعة أقسام كل منها واحد وتسعون يومًا، على أن هذه المحاولات مع الجهود المكثفة فيها لم تصل حتى سنة 1961 إلى نتيجة.
● السنة الهجرية فى أمان
وبين هذه المحاولات والمقترحات والمشاورات، بقيت السنة الهجرية أو القمرية فى أمان وفقًا لما درجت عليه خطواتها الأولى، بينما كان قد خيف عليها الزوال لأنها لا تسلك مع الناس مسلكهم فى مواعيد الزرع وجباية الأموال.
وتأتى العبرة والأمان- من حيث ظُنّ أنه لا أمان. فالسنة الهجرية تأبى التعديل والتبديل، لأنها سنة روحانية لا ترتبط بمواسم المعيشة وأوقات الحصاد والإنتاج والدواوين، ولا يُرتقب فيها إلاَّ شهرها التاسع لأنه شهر الصيام، وشهرها العاشر لأنه شهر عيد الفطر، وشهرها الأخير الذى فيه يحج الناس ويعيدون عيدهم الكبير.
والعبرة والتذكرة، أنه ما دام فى الدنيا أناس يصومون ويحجون، فإن السنة الهجرية لا تبالى شيئًا بنظام التقاويم، ولا تحتاج إلى اختراع قمر تدور عليه، فالقمر القديم باق على مطالعه ومغاربه، باقية له علاقاته بالمد والجزر، وبرحلات البر والبحر والهواء.
لقد اعتصمت التقاويم الأخرى بضرورات المعاش فلم تعصمها..
فإذا ما بقيت السنة الهجرية- وقد بقيت- بغير تعديل ولا تبديل، فلعلها تذكر الناس من جيل إلى جيل، بأن الفلك الروحانى أثبت من أفلاك الأجساد والأموال.
رجائى عطية
Email: [email protected]
www.ragai2009.com