ويقول «جوهان أكهارت» الألمانى، أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين، كما يقول ابن عربى: «أن الله هو الوجود الحق ولا موجود سواه». وقد نشأ هذا الفيلسوف فى القرن التالى لعصر ابن عربى، ودرس فى جامعة باريس التى كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية فى الحكمة والعلوم.
ومن هذه الفلسفة قبسات واضحة فى مذهب الفيلسوف «سبينوزا» الذى نشأ فى هولندا، وأصله من يهود البرتغال الذين أكرهوا على التدين بالمسيحية. وقد كان كلامه عن الذات والصفات وتجلى الخالق فى مخلوقاته.. الخ نسخة من فلسفة المتصوفة المسلمين مع قليل من التحوير.
* * *
ويرى الأستاذ العقاد أن الآراء الفلسفية التى قال بها أمثال الفارابى و الكندى وابن سينا والغزالى وابن رشد وابن طفيل لا تُعد غريبة كل الغرابة عن مذاهب العصر الحديث.
فالقائلون قديمًا بالعقل الهيولانى والعقل الفعال يذهبون إلى قول قريب جدًا من قول «كانت» عن ظاهرة الأشياء، وحقيقة الأشياء فى ذواتها، وهى الحقائق التى يستحيل النفاذ إليها بالعقل والتفكير، وإنما يدلنا عليها «العقل العملى» الذى هو مناط الأخلاق والفرائض والتفكير.
ويتحدث الأستاذ العقاد عن «دافيد هيوم» ورأيه فى العلة والمعلول، وترتيب حصول الأشياء،وعن اتخاذ ابن رشد المصلحة قياسًا للحقيقة فى ختام «تهافت التهافت»،وعن قول «سبينوزا» بوحدة المادة والروح، وهى الفلسفة التى شرحها من قبله «ابن جبيرول» الأندلسى فى كتابه «ينبوع الحياة»، وأقام الدليل عليها بوحدة العلة والمعلول فى الطبيعة أو فى بعض أجزائها.
ومن المشابهات غير البعيدة فيما يطرح الأستاذ العقاد- أن الأقدمين يقولون بتلازم الزمان والمكان، وأينشتين يقول إن الزمان هو البعد الرابع من أبعاد المكان. ومنها ما يصح أن يسمى الطور الأول لمذهب التطور، وقد عبر عنه الفارابى حيث قال فى آراء أهل المدينة الفاضلة إن «ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولاً أخسها ثم الأفضل فالأفضل إلى أن تنتهى إلى أفضلها الذى لا أفضل منه. فأخسها المادة الأولى المشتركة والأفضل منها الاسطقسات ( أصل العناصر بلغة اليونان ) ثم المعدنية ثم النبات ثم الحيوان غير الناطق وليس بعد الحيوان الناطق أفضل منه».
وقد توسع اللاحقون فى القول بالتدرج نصًّا، والإشارة إلى بعض المشابهة بين القرد والإنسان، ومن ذلك ما قاله ابن خلدون ونقله إلينا الأستاذ العقاد، وأضاف أن المشهور عن «ديكارت» أنه إمام الفلسفة الأوروبية الحديثة، وقد سبق الغزالى وابن سينا إلى ثلاث من أهم قضاياه الفلسفية. فقد قال الغزالى إن الشك أول مراتب اليقين، والشك كما نعرف هو مقدمة الفلسفة الديكارتية إلى البراهين اليقينية، وأول هذه البراهين لديه التى يثبت بها الوجود قوله «أنا أفكر فأنا موجود».. وهى بعينها قضية الإنسان المعلق بالفضاء كما عبر عنه ابن سينا حين تصدى لإثبات «الأنية» أى وجود النفس بمعزل عن الموجودات الخارجية.
* * *
ويخطىء فى رأى الأستاذ العقاد، من يرى أن كل ما تركه فلاسفة المسلمين قد نقلوه عن فلاسفة اليونان، فالغزالى مثلا كان على علم وثيق بأصول المنطق وكان من أقدر المفكرين السابقين واللاحقين على مناقشة البراهين اليونانية بمثلها أو بما يفوقها قوة ووضوحًا.
وابن سينا لم يرض عن مذاهب المشائين كل الرضى فاتخذ لنفسه منطقًا مقابلاً لمنطقهم سماه «منطق المشرقيين»، وأخذ البيرونى على أرسطو فى أسئلة لابن سينا أنه يعتقد بآراء الأقدمين، وأشباه هذه المناقضات كثيرة فى كتب الفلاسفة والمتصوفه وعلماء الكلام.
* * *
والفلسفة الصوفية على الخصوص، هى الطريق التى ظهر منها ما ظهر من آثار التفكير الجديد فى العالم المسيحى وفى العقائد الأوروبية إجمالا.
ويضرب الأستاذ العقاد مثلا بالقديس «توما الأكوينى» أكبر فلاسفة اللاهوت المسيحى فى القرون الوسطى، فلم يكن فى كل ما كتب فى الله والروح ووسائل الوصول لم يكن فيه رأى واحد لم يسبق أن تناوله قبله ابن سينا والغزالى وابن رشد على الخصوص.
وقد اتصلت الدراسات الفلسفية والصوفية بين رجال الكنيسة فكان من آثارها تلك الحملة القومية على نظام الرهبانية، وتعززت هذه الحملة فى البيئات الأدبية، ولم ينته القرن الخامس عشر حتى كانت مسألة الرهبانية قد وصلت إلى مفترق حاسم بين مذهبين، فأصدر مجمع «ترنت1545» قراره بتحريم الزواج على رجال الدين من جميع الرتب والدرجات، وتزوج «لوثر» إمام المذهب الإنجيلى براهبة كاثوليكية قبل ذلك على سبيل التحدى والاحتجاج.
* * *
ويذكر الأستاذ العقاد أن الأستاذ «نيكلسون» أشار فى كتاب «تراث الإسلام» إلى المشابهات بين أقوال الصوفية المسلمين وأقوال الصوفية الأوروبيين من الأقدمين، وتوسع فى مقاله القيم فى متابعة العلاقة بين صوفية المسيحية وصوفية الإسلام.
وقد مازجت الصوفية العربية صوفية الهند القديمة وصوفية الأفلوطينيين بالإسكندرية، وأضافت إليها كما أخذت منها، ويعقد الأستاذ العقاد بعض المقابلات ذات الدلالة فى مواضعها، ولا يتسع المجال هنا لتعقبها.
ويقرأ المسلم آيات بينات فى كتابه المبين الذى لا يختص فريقًا دون فريق، وفيهم ولا شك أناس مطبوعون على التصوف واستخراج الأسرار الخفية والمعانى الروحية، فإذا عمدوا إلى تفسيرها كان يسيرًا عليهم الوصول إلى لباب التصوف الذى شُغلت به خواطر الحكماء فى جميع الأجيال وبين جميع الناس، وعندهم من هذا القسط ما يجعلهم أصلاء فى الفلسفة الربانية ويجعل لهم فيها ما ينقلونه إلى الأمم، غير ما استعاروه من حكماء الهند أو حكماء الإسكندرية.
Email: [email protected]
www.ragai2009.com