المهديون
من أقوى الدلائل على عمق الأثر الذى تركته ضربات الاستعمار فى العالم الإسلامى، ردود الأفعال والمقاومة التى تجلت فى دعوات المعلمين المصلحين، وفى توزع دعوات الساسة وأصحاب الصوفية ودعوات التجديد أو العودة للقديم مع تخليصه من شوائب البدع والخرافات، كالدعوة الوهابية أو السنوسية.
ومن هذه الاتجاهات دعوات من نوع آخر هى دعوات المهديين الذين زعموا أنهم مبعوثون على موعد، وأنهم رُسل الخلاص والنجاة.
ومن هؤلاء المهديين من ظهر فى الهند، ومنهم من ظهر فى وسط فارس، وظهر غيرهم فى وادى النيل. وهذه الأرض هى التى أخرجت العلماء المصلحين، ورواد الساسة والوزراء.
وهذه كلها ظواهر تدل على قوة أثر ضربات الاستعمار، وتدل أيضًا على قوة وحياة البنية- أو العقيدة- التى خرجت منها ردود الأفعال للتصدى لكل فعل بما يناسبه فى حينه.
وأشهر المهديين فى عصر الاستعمار ثلاثة هم : ميرزا على محمد الملقب بالباب، وظهر فى إيران. وميرزا غلام أحمد القاديانى، وقد ظهر فى الهند. ومحمد أحمد عبد الله، وقد ظهر فى السودان.
(1) الباب
أول نشأة البابية فى عصر الاستعمار، دعوة الشيخ الحاج كاظم الرشتى الجيلانى، المولود 1205 هـ- وتتلمذ على الشيخ أحمد الإحسانى، وجال فى بلاد فارس، وتلقى الدروس عن الفلاسفة والمتصوفة، ودان بمذهب الحلول مع تغليبه لمذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية.
وتعلم كاظم الرشتى من أستاذه الذى تنسب إليه الفرقة «الشيخية»، أن المهد المنتظر سابح فى عالم الروح يوشك أن يظهر بالجسد خلافًا لاعتقاد الإمامية أنه محتجب بجسده. وكان من تلاميذ الحاج كاظم فتى يسمى «على محمد» يتنسك وتعاوده حالات وجوم وغيبوبة، فتسمى باسم «باب المهدى» أو«باب الدين»، وزعم أصحابه أنه تلبس بروح الإمام علىّ رضى الله عنه، فنادى من ثم بأنه المهدى الموعود، وأنه صاحب كتاب يسمى البيان هو المشار إليه فى القرآن فى قوله «علَّمه البيان»، وتلا على الناس سورًا عابوا عليه أخطاءه النحوية فيها، فتعلل لهم بأن ما ورد عن آدم من كلمات مقيدة بقيود الإعراب- كان عقابًا له على عصيانه، ثم أذن له الله أن يطلقها فصارت اليوم فى حِل من تلك القيود !!!
ولم يستكمل الباب كتاب البيان، وعهد بإتمامه إلى حضرة «بهاء الله»، ويُفهم من الكتاب الذى لا يرمى إلى تشريع كامل، أن ما فيه يكفى للوقوف على نهج الباب فى تأسيس قواعده وعقائده، بمزيج من أسرار وصفها الأستاذ العقاد بأنها «أقرب إلى التلفيق».
ويشير الأستاذ العقاد إلى ما نقله الدكتور ميرزا محمد مهدى خان فى كتابة مفتاح باب الأبواب، من أنه كان من جملة دعاته امرأة فتية بارعة الجمال متوقدة الجنان تسمى باسم أم سلمة، وقيل إن اسمها الصحيح «رزين تاج»، وتُكاتب الباب ويُكاتبها وأٌطلق عليها قُرة العين، وجيّشت جيشًا قادته مكشوفة الوجه، وزعمت أن الشريعة الأولى أى المحمدية قد نُسخت، وأن أحكام الشريعة الثانية لم تصلنا، ومن ثم فنحن الآن فى زمن لا تكليف فيه بشىء، وارتكبت كثيرًا من القبائح وقبض عليها وحُكم بأن تُحرق حيّة، ولكن الجلاد خنقها قبل أن تمسك بها النيران.
ومما أورده الأستاذ العقاد عن هذا الباب، أن أتباعه يزعمون أنه لم يتعلم وكان أميًّا يكتب بإلهام من الله، وقد شغل فى صباه بالرياضيات الصوفية وتسخير روحانيات الكواكب، وأنه كان يعرِّض نفسه فى الظهيرة وهو عارى الرأس للشمس المحرقة، فتعتريه من جرّاء ذلك نوبات، ومع ذلك يعيد الكرّة، حتى أشفق عليه خاله فأرسله إلى كربلاء أملاً فى شفائه على أيدى الأئمة المجتهدين، ولكنه أمعن هناك فى رياضياته وتراءت له الأشباح فى خلواته، واجترأ أتباعه على نشر دعوته، وهبت الثورة باسمه فى ترنجان ومازندران وتبريز، وعرض أمـره على العلمـاء فتحرج بعضهـم من الحكـم بقتله لعلـه أن يكون «مُخَالطًا» فى عقله غير مسئول عن فعله، وأفتى آخرون بوجوب القتل اتقاءً للفتنه فسجن ثم قُتل فى سنه 1850م.
وزعم الزاعمون أنه ظل واقفًا بعد إطلاق الرصاص عليه، لأنه أصاب قيوده ولم يصبه فى مقتل، ولكن شهود الحادث من غير البابيين أكدوا أنه مات وألقيت جثته فى خندق فأكلها السباع.
وجدير بالذكر، أنه فى ثمانينات القرن الماضى، سمعت شخصيًّا من زعموا بأن المحكوم عليه بالإعدام فى قضية اغتيال كبرى ظل واقفًا رغم إصابته بعشر طلقات نارية أصابته بها جماعة الإعدام، ونسجوا حول ذلك روايات خرافية، ظنى إن مصدرها البدعة التى رويت حول إعدام الباب سنة 1850م.
وكان الباب قد أوصى قبل اعتقاله باتباع خليفته ميرزا يحيى الذى نعته «بصبح أزل»، فانتقل صبح أزل إلى بغداد ومعه أخوه ميرزا حسين علىّ الملقب «بالبهاء»، ثم اختلفا فانقسمت الطائفة إلى فريقين، عُرفت إحداهما باسم «الأزلية»، وعُرفت الأخرى باسم «البهائية»، ونشطا للدعوة فى البلاد الإسلامية وغيرها، ولم يبق من أتباعهما وقت وضع الأستاذ العقاد هذا الكتاب، إلاَّ القليل، ولا أحسب إلاَّ أن هذا القليل قد تقلص الآن أكثر!
(يتبع)
Email: [email protected]
www.ragai2009.com