3 مراكش
كانت مراكش أول هدف للمستعمرين لأنها كانت الأقرب إلى دول أوروبا الغربية الاستعمارية، وفى الزاوية المقابلة من المحيط الأطلسى فرنسا وإسبانيا وإنجلترا، ولكن فرنسا لم تتقدم لأنها كانت مشغولة بحروبها فى القارة، وتعلم أن إنجلترا لن تقبل دولة كبيرة على الجانب المقابل لجبل طارق. وإسبانيا وصلت أوائل القرن التاسع عشر منهكة تلهث من الإعياء، أما إنجلترا فكان جبل طارق يغنيها، وكان همها أن تبقى مراكش فى أيدى أبنائها.
وقد بدأ القرن التاسع عشر ومراكش على شئ من القوة بالقياس إلى بلاد أفريقيا الشمالية، فتصدى زعماؤها لمقاومة الفرنسيين بالجزائر، وتمكن «أبو معزى» المراكشى من اقتحام الجزائر بعد خمس سنوات من احتلالها، ولم يتمكن القائد الفرنسى من مقاومته إلاَّ بنجدة قوية من فرنسا.. إلاَّ أنه لم تنقطع المناوشات بعد هزيمة «أبو معزى» وأسره، إلى أن تلاقى الجيش المحتل وجيش السلطان فى سنة 1884، فمنيت جيوش السلطان بهزيمة منكرة، نبهت جوانب المغرب من غفلتها، فنهضت لإصلاح الجيش والمرافق الوطنية.
ومع تولى السلطان «مولاى الحسن»، وهو من أقدر سلاطين المغرب، بدأت السبل والأساليب العصرية، وأوفدت البعثات إلى جامعات الغرب لتخريج الخبراء فى الشئون الفنية والعسكرية.
بيد أنه كان من فضائح الاستعمار، أن الدول الموقعة على معاهدة مدريد انتفضت ضده حين اتصل بالآستانة، واعتبرت ذلك منه اشتراكًا فى حركة دينية معادية. ولم ينته القرن التاسع عشر حتى كانت دول الاستعمار فى موقف يسمح لها بالتفاهم على هذه القضية العسيرة، فبريطانيا تحسب حساب اليقظة الوطنية، وفرنسا تسترضى إيطاليا وتعدها بالإغضاء عن مطامعها فى ليبيا، والنمسا تطمع فى بلاد «البشناق» من تراث الدولة العثمانية. وألمانيا ترضى بنصيبها فى الكونغو وبلاد التوجو من القارة الأفريقية.
وفى هذه الأثناء توفى السلطان الحسن، وخلفه السلطان عبد العزيز، والمغرب الأقصى فى أشد مآزقه وأحوجها إلى الحزم والحنكة، ولم يكن السلطان الجديد على شىءٍ من ذلك، فعبث فى مقام الجد، وسوأ سمعته فى العالم الإسلامى فضًلا عن العالم الأوروبى، وانشغل بسفاسف الأمور، وأرسل إلى مصر وغيرها فى طلب المغنين والراقصات، وأطمع الدول فى العدوان على بلاده، وانعقد مؤتمر الجزيرة سنة 1906 فى أسوأ الظروف بالنسبة للمغرب، واتفقت الدول المشاركة على قرارات ظاهرها الاستقلال والسيادة، وباطنها إناطة فرنسا بمهمة الحراسة وتنظيم الشرطة وإطلاق يدها شيئًا فشيئًا فى البلاد !
وشبت الثورة الوطنية على أثر مؤتمر الجزيرة لعجز السلطان عبد العزيز واسترساله فى لهوه وإسراعه إلى إقرار الوضع الجديد، وبويع السلطان «عبد الحفيظ» بعد تعهده بمقاومة السيطرة الأجنبية، فتعلل الفرنسيون بهذه المقاومة، وأغاروا على العاصمة، وأعلنوا الحماية، فكان إعلانها سنة 1912 من الخطوات الحثيثة التى دفعت بالعالم إلى الحرب العالمية الأولى.
حال الأمم غير المستقلة
وهكذا تطورت الحوادث بالدول الإسلامية المستقلة خلال القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين.
أما الأمم التى كانت فى حكم غيرها خلال هذا القرن، فشأنها فى حاضر الإسلام ومستقبلة لا يقل عن شأن الدول المستقلة، سواء بكثرة عددها ومواقع بلادها ومكانتها من عالم الحضارة. وكان من أكثرها عددًا الهند واندونيسيا ومسلمو الصين، فبدأ بها الأستاذ العقاد، قبل أن ينتقل إلى أمم أو جماعات أخرى، لينتقل إلى وادى النيل والبلاد العربية والهلال الخصيب. وهو ما يستوجب منا وقفة لأنها بلادنا، مكتفين بالإحالة إلى الكتاب فى شأن الهند واندونيسيا والصين.
وادى النيل
قضى وادى النيل القرن التاسع عشر كله- اسمًا ورسمًا- فى حوزة الدولة العثمانية، ولكنه كان محور العالم الإسلامى قبل قيامها وبعد انحسارها.. لجملة أسباب، تدور حول الدين تارة، وعلى السياسة أو الثقافة تارة أخرى.
كانت القاهرة معدودة عاصمة الإسلام، واعتاد ملوك الفرنجة مخاطبة سلطانها باسم أمير الإسلام، وكانت مصر طليعة الجيوش الإسلامية فى مقاومة الصليبين وبيت المقدس تابع لها أيام تلك الحروب.
ومضى زمن على العالم الإسلامى فى القرون الوسطى وهو لا يعرف قبلة لعلوم الدين أولى من الجامع الأزهر.
وعظمت مكانة مصر أمام الغرب بعد الحروب الصليبيه، وفى عهد الاستعمار، وعهد المسالة الشرقية.
ولما فكرت الدول فى أمر قناة السويس، كان المركيز «دارجنسن Dargenson» يروج للمشروع من الناحية الدينية بقول إنه فتح صليبى لجميع المسيحيين.
وشاءت له الحوادث، وحكم الواقع، أن تسبق مصر بلاد العالم الإسلامى إلى الحضارة الحديثة، لأنها تنبهت إلى مزاياها من مردود الحملة الفرنسية العلمى و العسكرى.
ويرى الأستاذ العقاد أن القرن التاسع عشر كان فى مصر بمثابة الأزمة النفسية التى تصاحب سن الرشد.
واستفادت مصر فى هذا القرن من الحضارة الأوربية وأوشكت أن تخلص لها فوائدها لولا بقايا الامتيازات الأجنبية وأثقال الديون وشطط وعجز الولاة من أيام عباس الأول إلى أيام توفيق ابن إسماعيل، وتذرعت بريطانيا باختلال الأمن لضرب الإسكندرية واحتلال القطر كله.
وحدثت قبل الاحتلال وبعده نهضة الحرية فى وجه الدولة العثمانية، وفى وجه حكام مصر وهم سلالة محمد على، وضد سيطرة المستعمرين. ومع أن شعور مصر كان اسلاميًّا فى مواجهة عصبية الغرب، إلاًّ أن الهتاف بالسخط على «العثمانلى» كان على لسان الخاصة والعامة منذ أواخر أيام المماليك.
وشهد القرن التاسع عشر قبل نهايته، بزوغ الحزب السياسى الذى نادى «بمصر للمصريين»، وعلى رأسهم إلى جوار أحمد لطفى السيد- الأستاذ الامام محمد عبده وسعد زغلول الذى صار وكيلاً للهيئة البرلمانية التى تألفت فى أوائل القرن العشرين باسم «الجمعية التشريعية» وأثبتت أن الجماعات النيابية تنال منزلتها ومقدرتها على قيادة الأمم بفضل من فيها من الأعضاء.
البلاد العربية
من شواهد التاريخ أن الإصلاح فى العالم الإسلامى كان يُخلق حيث توافرت دواعيه، وكان من هذه الدواعى فى الجزيرة العربية- أن بدأت بها الدعوة للإصلاح قبل ستين سنه من القرن التاسع عشر- بالدعوة الوهابية التى تنسب إلى الشيخ محمد عبد الوهاب.
وبدأت الدعوة للإصلاح فى نحو هذا الوقت فى اليمن- بدعوة الإمام الشوكانى صاحب كتاب «نيل الأوطار»، وكلاهما نادى بالإصلاح على نهج واحد، وهو العودة إلى السنن القديمة ورفض البدع والمستحدثات.
وتسامع الناس بحركة الشيخ محمد عبد الوهاب أكثر من دعوة الأمام الشوكانى التى اقتصرت على قراءة كتب الفقه والحديث، بينما تحرك الوهابيون وهدموا القباب والأضرحة فى الحجاز، وأدى اصطدامهم بجنود الدولة العثمانية إبان حربها مع الدول الأوربية التى اتفقت على تقسيمها إلى ذيوع أمرها.
وتبع ابن عبد الوهاب كثيرٌ من الحجاج وزوار الحجاز، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأعجب المسلمين أن الهزائم التى تعاقبت عليهم كانت بسبب تركهم للدين.
بيد أن سياسة الاستعمار لم يفتها فى هذه المرحلة أن تستغل التمرد على الدولة العثمانية وأن تستغل التنازع بين أمراء الجزيرة فى داخلها وعلى شواطئها- للتعاقد مع أمراء الشواطئ على نوع من الحماية الخفية، وأحكمت إحاطة الجزيرة العربية بحلقات من الإمارات التى تخضع لها وتعمل لها فى السر ما لا تستطيعه فى العلانية.
الهلال الخصيب
وكان الهلال الخصيب وسطًا بين مصر والجزيرة العربية فى نهضة الإصلاح الدينى ومجاراة الحضارة الحديثة. ولما تسابقت الدول الغربية إلى فتح المدارس فى لبنان وسورية، لم يقبل عليها المسلمون لاعتقادهم أنها وسيلة للتبشير.
وكان من خدام الاستعمار طائفة تمهد له بخدمة اللغة العربية تشجيعًا لثوار العرب على دولة الخلافة العثمانية، واحتيالاً لنفث بعض المغامز فى طيات الكتب التى تنشرها. ومع ذلك لم يخل ذلك من شواهد تثبيت أن العلم لا يخلوا من الخير وإن ساءت نوايا ناشريه !
وجملة الحال، أن بلاد الهلال الخصيب كانت عند أواخر القرن التاسع عشر تتقدم فى نهضة إسلامية تتوسط بين منهج محمد بن عبد الوهاب ومنهج محمد عبده. وامتزج بها طلب الحرية وطلب التجديد.
وفى داخل هذا الهلال الخصيب، فرقٌ من المسلمين كالمناولة والدروز يُحسبون من غلاة الشيعة، ويذهبون إلى أقوال فى الحلول والإمامة يخالفهم فيها السنيون والشيعة المعتدلون، وتكاد كل فرقة من هؤلاء أن تنطوى على عزلتها، إلاَّ البعض الذين قصدوا معاهد العلم الحديث فى لبنان ومصر والبلدان الأوروبية.
(يتبع)
Email: [email protected]
www.ragai2009.com