بيد أن هذا التفاضل لا يقوم على نسب موروث، أو على سطوة أو غضب أو نفوذ، إنما يقوم على العمل الذى هو – مع الأخوة- المناط والحكم الذى إليه التقدير.
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ َ» (الحجرات 10)
«وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَاكُمْ» (الأنعام 165)
«وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» (الأنعام 132)
ويبدو جليا فى هذه الآيات، حرص القرآن الكريم على استعمال تعبير «الدرجات»، وهو ما قصدته من أن الإسلام وان أقر بوجود التفاوت، والتفاضل أيضًا، إلاَّ أنه أنكر تقسيم الناس إلى «طبقات» وآثر عليه تعبير «الدرجة» و«الدرجات».
على أنه أيا كانت المسميات، فالمنظور الإسلامى واضح، فإنه عالج الأمر على سنة المساواة، وعلى ما يصلح به المجتمع الإسلامى: مجتمع الضمائر والنفوس التى يخاطبها الدين..
أمانة العلم والإصلاح، ينهض عليها الأكفاء لها، ولا تحكمًا ولا سيطرة، وإنما من باب الإقرار بالكفاية لأهلها، والقدرة على الإصلاح للناهضين بها..
«فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (النحل 43)
«وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ َ» (أل عمران 104)
كسب المال مباح محمود، ولكن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى الخير ملعونون مستحقون للعذاب الأليم:
«وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» (التوبة34)
وصلاح المال أن تتداوله الأيدى
«كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاء مِنكُمْ» (الحشر7)
وليس من الخير فى غنى المال أن يجمعه الإنسان حتى يطغيه
«كَلا إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى» (العلق 6، 7)
أما المحتكرون فهم منبوذون من المجتمع الإسلامى بيرأ منهم ويلعنهم الله، كما جاء فى الأحاديث النبوية الشريفة: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون»، كما جاء فيها:
«من احتكر طعاما أربعين يوما يريد به الغلاء فقد برىء من الله وبرىء الله منه»
ودفع الإسلام ربا النسيئه بتحريمه، ودفع المضاربة بالنقد أو بالطعام لاحتكاره، ونهى عنهما نهيًا شديدًا ووصفه الحديث الذى مرَّ بنا سلفًا، بأنه ربا.
والعمل هو المناط..
«وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة 105)
وفى الحديث الشريف:
«أن الله يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال».
«أفضل الكسب كسب الرجل بيده».
ولمن أقعده العجز أو المرض عن السعى، فله على المجتمع حق مفروض.
«لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ» (البقرة177)
فلسفة الزكاة
لم يقصد الإسلام بفريضة الزكاة أن يجعلها حلاًّ لمشكلة الفقر، وإنما تنحل المشكلة فى المجتمع بالعمل والسعى فى طلب الرزق.
والتعاون أدب من آداب الإسلام..
«وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..» (المائدة2)
«وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» (العصر3)
وواجب الكبار فى الإسلام كواجب الصغار، فعلى كل واجب، فليس من المسلمين كبير لا يرحم صغيرًا، أو صغير لا يوقر الكبير..
وفى الحديث الشريف:
«ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر»
وانه لمما ييسر التعاون بين الأمة، فيما يقول الأستاذ العقاد، أن تقرر فيها كفالة الضعفاء فرضًا محتومًا على القادرين، وأن يمتنع حبس المال فى حوزة فريق من الناس.
لا افراط ولا تفريط ولا استئثار ولا حرمان.
الرق
وجملة القول فيه، وقد سبق تناوله بمناسبة «الفلسفة القرآنية»، أن الإسلام لم يشرع الرق، وإنما شرع العتق وحض عليه وجعله سبيلا لكفارات، فى القتل الخطأ، وفى كفارة الأيمان، وفى الظهار، وفى غير ذلك..
حق الإمام
الإمام فى الإسلام هو «وكيل الأمة» فى اقامة حدود الله. وحقه بالتبعية مرادف لحق الأمة ما كان قائمًا بهذا الواجب أو بهذه الأمانة.
ووجوب طاعته هى فيما يدعو لمصلحة الأمة.
وليس له أن يعطل حدود الله، أو أن يقيم حدًا فى غير موضعه.
وعليه تقع تبعة الأمة فى تقدير مصالحها وضروراتها وما يترتب على ذلك من اجراء والأحكام والتوفيق بينها وبين أحوالها..
وموضع الاجتهاد الذى يطلب إليه فى سائل التشريع، ما سبق تفصيله من أقوال الفقهاء فى أبواب القياس والاستحسان والاستصلاح وغيرها من أصول استنباط الأحكام من واقع أدلتها التفصيلية، فيما يحيل فيه الأستاذ العقاد- إحالة فى موضعها- على ما أجمله العالم الفاضل الأستاذ عبد الوهاب خلاف فى كتابه عن مصادر التشريع الإسلامى، وأيضًا كتابه فى «أصول الفقة» وهو ما أسلفناه فى تناول كتاب «التفكير فريضة إسلامية» وما أحلت وأحيل عليه من كتابى: «الإسلام يا ناس» (2013).
ويعنى الأستاذ العقاد عناية فى محلها، بوجوب الاجتهاد، وأوله جواز الاجتهاد بل وجوبه وأمثلته كثيرة فيما ثبت من أعمال النبى عليه الصلاة والسلام وأعمال الخلفاء الراشدين، لا سيما الفاروق عمر، فضلاً عن الإمام على الذى كان الفاروق يقول عما يفتيه فيه: لولا على لهلك عمر.
ومن اجتهادات عمر مدة خلافته: الإعفاء من العقوبة (استنادًا للضرورة فى عام المجاعة)، وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وفرض الخراج، وإنشائه من المكافآت والعقوبات ما لم يكن معمولاً به قبل خلافته.
وليس صحيحًا ما يظنه البعض أن الفاروق خالف النص فى قضية سهم المؤلفة قلوبهم، وإنما الصحيح أنه اجتهد فى فهم النص وتطبيقه كما ينبغى.
وأنفذ عمر فتوى على رضى الله عنهما حين أفتى بمعاقبة شارب الخمر بعقوبة القاذف، أخذا بأن المخمور لا يملك لسانه، وأمضى أيضًا كثيرا من المكافآت على هذا القياس.
ومن اجتهاد عثمان الأمر بكتابة المصحف على حرف واحد منعًا لاختلاف الأ لسنة فى القراءة.
ويوشك الإمام على- فيما ينوه الأستاذ العقاد- أن يكون له رأى فى كل معضلة عرضت للخلفاء من قبله، فضلا عن فتاويه فى خلافته، وربما رأى الرأى ثم عدل عنه ثم عدل عن عدوله كما حدث فى فتواه ببيع أمهات البنين، والذى استقر فيه على المنع أخذًا بما اتفق عليه مع عمر.
وقد ساهم أهل الذكر من العلماء فى دعم أسس التشريع واستنبطوا له الضوابط والآداب من كتاب الله وأحاديث الرسول ومأثور السلف الصالح، وخلصت لهم من جهودهم نخبة قيمة من القواعد والشروط يحق أن نسميها «قوانين التقنين»
ومن هذه القواعد- تمثيلا لا حصرا- أن اليسر مفضل على الحظر فى أوامر الشرع ونواهيه، وأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، وأن ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن، وأنه «لا يجوز اقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة».. أو الضرر من باب أولى، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه لا ضرر ولا ضرر، وأن اختيار أخف الضررين مصلحة، وأن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وأن الصلح جائز بين المسلمين إلاَّ ما أحل حرامًا أو حرَّم حلالا.
ومن ضوابط التشريع فصل السلطات وفصل عمل الحكم عن عمل التنفيذ، وحق النقض «فيما خالف نص آية أو سنة أو اجماع…»
ومن البداهة أنه ليس للإمام أكثر مما كان للنبى عليه الصلاة والسلام.. فإليه وعنه تحدثت آيات القرآن الكريم فقالت…
«لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ» (آل عمران128)
«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ» (الكهف110)
«وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ» (ق45)
وهو عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بمشاورة المسلمين
«وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ» (آل عمران159)
والمسلمون مأمورون بالمشاورة فيما بينهم..
«وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» (الشورى 38)
وليس حق الإمام بالبداهة حق الإمام لشخصه، وإنما بموجب البيعة والأمانة العامة..
ومن تمام التكافل «والتضامن» فى المجتمع الإسلامى أن أمانة «الإمامة» لا تعفى الأمة من واجب النصح له، ولا تحله من واجب الاستماع وخفض الجناح الذى أُمِر به رسول الدعوة عليه الصلاة والسلام.. «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» (الحجر88)، «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (الشعراء215)
وختام القول، أن باب التشريع مفتوح فى كل عصر وكل مجتمع، وأنه يكفل للأمة الإسلامية ما يكفل حق السيادة وزيادة.. ما بقى التشريع مستمدًا من ضمير الإنسان وكلمة الله.