فى مدينة العـقاد (283).. التفكير فريضة إسلامية (11)

1:38 م, الثلاثاء, 9 أغسطس 16

جريدة المال

المال - خاص

1:38 م, الثلاثاء, 9 أغسطس 16

الاجتهاد فى الدين

يبدى الأستاذ العقاد أن الفهم واجب على المسلم فى الأخذ من جميع المصادر والعمـل بها، وهو بداهة يعنى المصادر التى ذكرها: الكتاب، والسُّنة، والإجماع. ويقفـى بأنـه لا تعارض بين النص والاجتهاد فى وجوب الفهم فى كلٍّ من هذه المصـادر. لأن المسلم بعد ما تلقاه من أوامر إلهية توجب عليه التفكير والتدبر والاحتكام إلى العقـل والبصيـرة لا يتبع النص بغير فهم ولا تفرقة بين مواضع الإتباع وأسبابه.

ومن يقول إن العمل بالنص يعنى العمل بغير فهم ليس هو من الإسلام فى شىء !

فالتفكير فى أمور الدين أصل من الأصول المقررة، أما التقليد فهو حالة من حالات الضرورة التى تعفى من الاجتهاد بالفهم من يعجز عنه ولا يستطيعه.

فلا إيجاب للتقليد، ولا تحريم للاجتهاد بالفكر.

وشرُّ الناس من يحرم على خلق الله أن يفكروا ويتدبروا بعد أن أمرهم الله بالتفكير والتدبر، وأنبأهم بعاقبة من لا يفكرون ولا يتدبرون.

على أن التفكير فى الإسلام ليس عوضًا أو بديلاً عن النص أو ما يشبه النص فى الأحكام، بل هو فريضة منصوص عليها ومطلوبة لذاتها ولما يتوقف عليها من فهم الفرائض الأخرى.

وقد وقع الاجتهاد فى الإسلام نصًّا وعرفًا وتقليدًا إن صح هذا التعبير، ويعنى الأستاذ بالتقليد هنا حسن القدوة بالأولين والتابعين من السلف الصالح، وأول الأولين بداهة هو نبى الإسلام عليه الصلاة والسلام ثم الخلفاء الراشدون ومن تبعهم فى العصور التى اشتدت فيها حاجة المسلمين إلى الاجتهاد، وقد آثر الأستاذ العقاد هذا التعبير عـلى «فتوى الصحابى» إيثارًا أظن أنه مقصود لفتح المجال للعقل للاجتهاد الأوسع الذى يجد غايته فيما أبداه النبى عليه الصلاة والسلام وفيما يقع عليه الباحث من اجتهادات الخلفاء الراشدين والتابعين، وقد أشفع الأستاذ العقاد هذا ببيان بعض هذه الاجتهادات التى تلقاها الصحابة عن النبى عليه الصلاة والسلام.

أما الخلفاء الراشدون، فيقفى الأستاذ العقاد بأنهم اجتهدوا منذ عهد الصديق الخليفة الأول فى المصالح المرسلة التى لم يرد فيها نص ولم تسبق لها سابقة فى حياة النبى عليه السلام. وضرب أمثلة لهذه الاجتهادات بالمصالح المرسلة:
● كتابة المصحف ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير.
● ولاية العهد من أبى بكر لعمر رضى الله عنهما، لم يتقدم فيها أمر ولا نظير.
● ترك الخلافة شورى.
● وتدوين الدواوين.
● وعمل السكة للمسلمين.
● واتخاذ السجن.
● هدم الأوقاف التى بإزاء المسجد النبوى وتوسعته، وقد اجتهد فى ذلك عمر رضى الله عنه.
● تجديد الأذان فى الجمعة بالسوق، وقد اجتهد فى ذلك عثمان رضى الله عنه.
● واجتهد أبو بكر وعمر معًا فيما ورد فيه النص لزوال العلة الموجبة، بالنسبة لسهم الزكاة للمؤلفة قلوبهم.

ويعقب الأستاذ العقاد تعقيبًا فى محله، أن من سوء الفهم اعتبار أن هذا مخالفة للنص، وإنما الصحيح أنه اجتهاد فى فهم النص فى إطار البحث فى المؤلفة قلوبهم، حيث لم يعد لها محل ولا مصلحة فى الإسلام، تقرر لهؤلاء استحقاقًا فى أموال الزكاة.

ومن هذا الاجتهاد، فيما أورد، إسقاط حد السرقة فى عـام المجاعـة، والواقـع أنه اجتهاد يستند إلى أن القرآن والسُّنة قد جعلا من حالـة الضـرورة سببًا عامـا للإباحـة أو مانعًا للعقاب، فجاء فى القرآن الحكيم: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ( البقرة 173 )، وجاء فيه أيضًا «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» ( النحل 115 والأنعام 145 )، وجاء فى الحديث الشريف: «الضرورات تبيح المحظورات». ( للتفصيل كتابنا عالمية الإسلام دوحة العدالة فى الإسلام ص 181 201 ).
* * *
ومن الخطأ بل من الفهم المعكوس، أن يقال إن الاجتهاد كان لازمًا فى عصر الدعوة وتوالى نزول القرآن وتوارد السُّنة وحضور صاحب الدعوة وإجاباته على ما يسْأل فيه، وأن الاجتهاد لم يعد له لزوم بل صار محرمًا بعد ذلك العهد. والدليل على لزوم الاجتهاد فى كل وقت ما استنه النبى عليه الصلاة والسلام نفسه، وتابعه فيه الراشدون من خلفائه وأصحابه.

ولم يغلب التقليد إلاَّ فى أدوار التأخير وخراب الذمم والضمائر، وقلة أو نـدرة الصالحين.
ويقفى الأستاذ العقاد بكلمة فى أبواب ثلاثة من أبواب الاجتهاد.

القياس، وهو قياس ما لا نص فيه على ما ورد من النصوص، للمشابهة واتحاد العلة.
والاستحسان، وهو المفاضلة بين حكمين مستندين إلى النصوص استحسانًا لأن الراجح منهما أوفى بالقصد وأقرب إلى السبب المشروط فى إجرائة.

والمصالح المرسلة، وهى المصالح التى لا تتقيد بنص ولم يسبق لها نظير، ولكن تتحقق بها مصلحة الأمة فى حالة من الحالات.

وقد ذكرت فى مقدمة هذا الفصل، باقى سبل الاجتهاد ووسائل الاستنباط، وهى تتساند جميعها فى إطار المقاصد التى يتغيّا الأستاذ العقاد الإشارة إليها والتنويه بها.

وبرغم حرص الأستاذ العقاد على تقديم العقل وفريضة التفكير، فإنه وقف وقفة متحفظة إزاء مذهب «الظاهرية» الذى نشأ لمقاومة الباطنية وإنكار الحاجة إلى إمام مستتر، وكانت بدايته فى بغداد على يد داود بن سليمان الظاهرى ( 201 /270 هـ )، وبلغ غاية شيوعه ومداه فى المغرب على يد ابن حزم الظاهرى (384/456 هـ )، وتوسع فى تحكيم العقل غير متحرج منه إلاَّ ان يختص به أحد دون جمهرة المسلمين. فقال الأستاذ العقاد إن ابن حزم إذ أباح الاجتهاد والرجوع إلى العقل للعالم وللجاهل، فإنه يخشى من نتائج هذا المذهب أنه يصد فريقًا من العلماء القادرين على الاجتهاد النافع عن الاضطلاع بأمانة القيادة الفكرية.

وقد كان هذا المذهب الظاهرى من أهم المذاهب التى ابتعثتها دواعى السياسة فى المغرب، وشاع حينًا ثم ضعف وأخذ فى الزوال تدريجيا بزوال الباعث الحثيث عليه، أما فى المشرق فقد أغنى عنه أن الخلفاء والأمراء كانوا يبنون المدارس ويجرون فيها الجراية على طائفة من علماء المذاهب الأربعة المعروفة، لا يشترك فيها غيرهم، وانتهى الأمر فى القرن السابع الهجرى بأمر الخليفة المستعصم إلى علماء الفقه فى المدرسة المستنصرية بأن يقصروا دروسهم على أقوال الأئمة من قبلهم.

وقد كان هذا فى القرن السابع للهجرة وما بعده بقليل، ثم رانت على العالم الإسلامى- فيما يقول الأستاذ العقاد- غاشية الجمود والضعف، فانقطع الناس عن العلم اجتهادًا وتقليدًا، وتواكلوا فى كل شىء. وطالت هذه الفترة نحو أربعة قرون، تتابعت فيها الضربات والقوارع، إلى أن نبغ فى الأمة قادة وعلماء غيورون، يجاهدون ويجتهدون ويعودون بالأمة إلى ما بدأ به الإسلام، وتعلم المسلمون أن احتفاظهم بمكانهم بين الأمم رهين بمحافظتهم على فريضة التفكير.

جريدة المال

المال - خاص

1:38 م, الثلاثاء, 9 أغسطس 16