فرنسيس بيكون.. مجرب العلم والحياة (4)

رجائى عطية

5:09 م, الأثنين, 12 نوفمبر 18

رجائى عطية

رجائى عطية

5:09 م, الأثنين, 12 نوفمبر 18

 
توابع مأساة اللورد النبيل
لم يكن أحد فى البلاد الانجليزية- فيما يورد الأستاذ العقاد- يريد للورد المحبوس أن يلقى الجزاء المقرر بحكم القانون، وهو الإعدام، إلاَّ أعدائه ومنافسيه.
كانت الملكة صاحبة القسم الأوفى والحق الأكبر فى القصاص، باعتبارها صاحبة السلطان الذى اجترأ عليه اللورد، ومع ذلك كانت فى داخليتها لا تكره أن ينجو اللورد من عقابه بحجة من الحجج التى تحفظ الشكل، وقيل إنه غام على عقلها الحصيف بعد إعدام اللورد، وجعلت تفترش الأرض ليالٍ متواليات من الألم والرغبة فى التفكير.
وكان جمهور الشعب يأبى أن يُدان اللورد الجميل المقدام.
وكان الجيش يحبه ويعجب به ولا يسىء الظن بثورته، ويعزوها إلى الحدة لا الخيانة.
أما النائب العام إدوارد كوك، فكان وهو يلمح الطوايا الملكية والشعبية، يقتصد كثيرًا فى تقرير التهمة وتعزيز الأدلة.
وهنا عمد خصوم اللورد إلى الرجل الوحيد الذى ينبغى له أن يتنحى عن هذا العمل، فندبوا فرنسيس بيكون للمهمة لرفع شبهة أن يكون المنتدب لها من أعدائه، وظفر هؤلاء بقبول بيكون ليمثل الاتهام ضد صديقة اسكس بالخيانة العظمى!
ولم يحدث قط- فيما يقول الأستاذ العقاد- أن ندب رجلٌ من هيئة المحاماة الاستشارية لمثل هذه المهمة فى قضية من قضايا السياسة العليا، ولم يندب بيكون بعدها فى أى قضية أخرى على كثرة القضايا السياسية التى أعقبت هذه القضية المشئومة.
فلماذا ندبوه ؟ ولماذا أجاب؟
ندبوه كيما يقال إن التهمة جاءت اللورد المحبوب من بعض أصحابه المقربين !
وأجابهم فيما يبدو لأنها الفرصة السانحة لتحقيق الطمع الذى عز عليه من سنين !
وربما ظن بيكون أن الحكم أيًا كان، سيتبعه عفو، لما يعلمه من عطف الملكة عليه.
ويحسب فى ذات الوقت لبيكون أنه حاول أن يثنى اللورد عن فكرة الثورة، وحاول جهده أن يصلح بينه وبين الملكة.
إلاَّ أن هذه المعذرة لا تشفع فى رفع هذه الوصمة عن بيكون أو تبرئه من المذمة.
ويأخذ الأستاذ العقاد عليه أنه بذل جهده فى إثبات التهمة وإغلاق منافذ الرحمة، وبالكذب المتعمد والسخرية من دعوى الكيد والاستثارة، حتى ضاق اللورد المتهم بمكابرته، فعلق
يقول : إن مستر بيكون فى رسائله ( إليه) يدحض ما يقوله مستر بيكون فى اتهامه !
وللأسف زاد بيكون على اللدد فى الاتهام، لددًا فى تشويه سمعة اللورد بعد مماته !
ويذكر أن نقاد هذه القضية عجبوا من نشاط بيكون وبراعته القانونية، ومن هفوات كوك وغفلته عن المآخذ الظاهرة فى تسيير الدعوى وتوجيه التهمة، سيما ولم يكن بيكون على فضله فى العلم والأدب- ندًّا لكوك فى أفانين المحاكم ومسائل القضاء.
وشاءت المقادير أن ينقضى حكم الملكة إليصابات، دون أن يكون لبيكون نصيب فيه من الوظائف أو الألقاب.
وكان كل ما أصابه من جزاء على جهوده المضنية فى القضية- حصته من الأموال التى جمعت من مصادرة أملاك اللورد والثائرين، وبلغت هذه الحصة ألفًا ومائتى جنيه هى دون ما أخذه طواعية من اللورد القتيل !
بل وأصابه ظل كثيف من المعابة ران على سمعته ولا يزال ! ولم تخل نكبته الأخيرة من عقابيل هذا الخطأ الجسيم !
* * *
ولا شك أن معالجة الأستاذ العقاد لهذه المسألة ونعيه على «بيكون»- ما يرفع النقد الذى وجه إليه من البعض أنه يقتصر على ذكر المحامد دون العيوب. وقد إستطرد فى تتبع مصير بيكون وثمرة تزلفه للبلاط، فى عهد الملك جيمس الأول، مع أن الملك كان يعطف على أسرة اللورد إسكس.
وجَدَّ بيكون فى السعى للحصول على لقب بعد أن لم يبق أحدٌ من زمرة المحامين من طبقته إلاَّ وأنعم عليه من مستهل العهد الجديد بلقب من ألقاب التشريف. ولم يقتصر بيكون ولا ترك أحدًا من أصحاب النفوذ بمن فيهم قريبه روبرت سسل، إلاَّ وسطه فى تشريفه بلقب أسوة بأقرانه وأصحابه، وأثمر السعى فى النهاية الإنعام عليه فى سنة 1603 بلقب فارس، فأصبح يدعى السير فرنسيس بيكون، وتوالى الانعام عليه بالألقاب حتى ارتقى إلى رتبه الفيكونت فى سنة 1621، وترقى أيضًا فى الوظائف، فعُيّن لوكالة النائب العام فى سنة 1607، ثم لمنصب النائب العام فى سنة 1612، وارتفع فى خلال ست سنوات إلى منصب قاضى القضاة، وهو أكبر المناصب القضائية فى الدولة الانجليزية.
وجوزى بيكون بهذه الألقاب والترقيات على خدمته للبلاط وتأييده لامتيازاته فى مناقشات مجلس النواب، وعلى التوفيق بين المجلس والبلاط فى النزاع حول حقوق العرش وحقوق الأمة.
ويلاحظ عليه الأستاذ العقاد أنه أباح لنفسه فى مناصب القضاء من التزلف للبلاط، ما لم يكن يستبيحه وهو نائب عن الأمة.
وضرب الأستاذ العقاد مثلاً قضية « أوليفر سان جون » الذى أنكر على الملك حق فرض الخيرات والصدقات، فتولى بيكون الاتهام والمطالبة بالعقاب، وحكم على الرجل بالسجن.
كذا قضية القس بيشام الذى حوكم لأنه كتب موعظة لم يلقها ولم تنشر مناقضة لامتيازات الملك، وكان بيكون يساوم القضاة لإدانة هذا الشيخ المسكين على خلاف ما اعتقدوه.
ومع أن مثل هذه الخطة تضمن لصاحبها أمان المنصب زمنًا طويلاً، إلاَّ أن بيكون لم يكن فى حصن من الشبهات والأقاويل، وكان حوله خصوم متربصون، جعلوا حوله شبهات جمة، قواها إسرافه الذى يتجاوز مورده المحدود.
كان مورده المحدود دون الثلاثة آلاف جنيه، ونفقاته تزيد على خمسة أضعاف هذا المقدار.
واتفق غير مره أن أخذ الرشوة من طرفى الخصومة، فتألب عليه فريق من هؤلاء.
وأبى البلاط أن يحميه لأن التهم والشبهات استفاضت فى البلاد.
وجرى التحقيق مجراه، وأسفرت المحاكمة عن ثلاث وعشرين تهمة اعترف بها بيكون غير ما أعوزها الدليل، ولم يسع قضاته النبلاء إلاَّ أن يحكموا عليه بأقسى ما فى وسعهم من الأحكام، وضاعف فى قسوة حكمهم أنهم كانوا على يقين من الاعفاء والمسامحة من جانب البلاط، فقضوا بتغريمه أربعين ألف جنيه وسجنه فى البرج بإذن الملك حتى يأمر بالإفراج عنه، وحرمانه من الجلوس فى دار النيابة وولاية الوظائف العامة. وقد حدث ما توقعه النبلاء الذين حاكموه، فأعفاه الملك من هذه الأحكام جميعًا إلاَّ العزل وتحريم النيابة والولاية، وظل هذا الحكم نافذًا حتى قضى نحبه فى سنة 1626بعد خمس سنوات !
ويُذكر أنه أفصح فى محاكمته عن أنه لم يفارق العدل قط، وأنه أعدل قاضٍ فى الديار الإنجليزية منذ خمسين سنة، وليس ذلك بغريب، فقد أدانه قضاته على الرشوة، ولكن لم يثبت عليه قط أنه حكم فى قضية واحدة بما يخالف العدل والحقيقة.
[email protected]
www. ragai2009.com

رجائى عطية

رجائى عطية

5:09 م, الأثنين, 12 نوفمبر 18