فرنسيس بيكون.. مجرب العلم والحياة (16)

7:56 ص, الأحد, 2 ديسمبر 18

جريدة المال

المال - خاص

7:56 ص, الأحد, 2 ديسمبر 18

المناصب الرفيعة
الرجال فى مناصبهم الرفيعة موزعون على ثلاثة محاور: خدم لملك الدولة، وخدم للسمعة، وخدم للعمل والمصلحة. ولا حرية لهم فى أنفسهم ولا فى أعمالهم ولا فى أوقاتهم.
ومن العجيب أن يرغب الإنسان فى السيطرة ويفقد الحرية، أو أن يطلب فرض سيطرته على الآخرين بينما لا سلطان له على نفسه.
الصعود إلى المناصب الرفيعة مشقة مجهدة، والوقوف فى الطريق مزلقة، أما الرجوع فهو إما سقوط أو احتجاب.
وقديمًا قال شيشرون: «إذا أصبحت غير ماكنت فلا معنى لأن تعيش».
على أن المرء لا يعتزل المنصب كما يريد، ولا يعتزله بحكم العقل والحكمة، ولذلك يتبرم بالعزلة حتى فى شيخوخته ومرضه.
ويحسب بيكون أن الرجال فى مناصبهم الرفيعة يفتقرون إلى آراء غيرهم ليخيل لهم أنهم سعداء. فهم عند رجوعهم إلى أنفسهم لا يجدون السعادة هناك، إنما يفكرون فى أفكار الناس وتصوراتها عنهم. بل ويعرفون فى دخيلة ضمائرهم نقيض ما يعرفه غيرهم..
والحق أن الرجال فى المناصب الرفيعة غرباء عن أنفسهم، وينشغلون بها عن تعهد صحتهم الجسدية أو الفكرية. وقد قال الفيلسوف سنيكا: «إن الموت يهبط ثقيلاً على من يموت وهو لا يدرى وغيره يدرون».
وصاحب المنصب الرفيع يستطيع أن يفعل الخير والشر، ولكن فعل الشر لعنة. واستطاعة الخير هى المسوغ الحق للطموح إلى الرفعة.
وللمرء فى جهده غاية للأفضال وصالح الأعمال، ورؤية هذه الغاية تجلب الرضا والغبطة. ومن تشبه بالله فى الخلق حرىُّ به أن يتشبه به فى النظر إلى آثاره.
اتخاذ القدوة واجب لأنها هداية، فكن مصلحًا بلا زهو ولا ملامه للسابقين، وليكن همك انشاء السوابق الحسنة لمن يليك.
والرجوع بالأمور إلى أصولها واجب للنظر كيف لحق بها النقص والإدبار، والتماس العبرة لازم فى الزمن السابق، ولازم فى الزمن الحاضر، وأجدى للعمل أن يجرى على وتيرة منتظمة ليعرف الناس سلفًا ما يترقبون.
ويجب أن يحفظ للمنصب حقه، ولكن فى غير حاجة للتترس بالنصوص القانونية. كما يجب أيضًا حفظ حقوق المرءوسين.
وللسلطان آفات أشهرها أربع: التراخى، والفساد، والصلف، والمحاباة.. ولعلاج هذه وتلك أساليب.
مظنة الرشوة والفساد تقلب الخطط. ومن أبواب المظنة وضع الثقة والسر فى غير موضعها.
أما الصلف والخشونة، فهما مجلبة للشكاية بغير ضرورة. وإذا كانت الصرامة تبعث الخوف، فإن الصلف يبعث على الكراهية.
والمحاباة شر فى أثرها من الرشوة، فالرشوة تقع من حين إلى حين، أما المحاباة فحالة دائمة.
ولا شك أن سلالم الصعود إلى المناصب الرفيعة كلها حلزونية، فإذا كانت هناك شيع فمن الحسن أن يلتزم المرء بالحيدة حين يصل إلى مكانته.
ومن الواجب إنصاف ذكرى الأسلاف، فتجافيها يخالف سنة الانصاف، وإلاَّ صح على المرء ما نقوله الآن «كما تدين تدان».
الصداقة
من أقوال أرسطو فى كتابه السياسة: «من سرته الوحدة فهو أحد اثنين: إما حيوان آبد أو إله».
فلا مراء فيما يضيف بيكون، أن النفور من المجتمع وبغضه فيهما شىء من الحيوانية المستوحشة.
بيد أن من الخطأ فى عبارة أرسطو- أن تعزى الحالة الثانية إلى الصفة الإلهية، إلاَّ أن يكون حب الوحدة رياضة لغرض غير السرور بها.
على أن من الواجب فهم المقصود بالوحدة أو مداها. فالزحام لا يحسب صحبة، وأصداء الكلام ما هى إلاَّ رنين أجوف حين يخلو من المعنى والمودة.
ويخطو بيكون بعد هذا خطوة ليبدى أن الوحدة التى تفتقد الصحبة الصادقة بؤس ونكد وفقر موحش لا أنس فيه.
وأهم ثمرات الصداقة أن يفرغ الصديق فؤاده لصديقة.
ومن الغرائب الملحوظة فى هذا الصدد، مبلغ تقويم الملوك لثمرات الصداقة. فهى لذّات عزيزة جدًا عليهم منذ كانوا يشترونها مجازفين بسلامتهم فى رحلة صعودهم.
واعتاد الأمراء أن يختاروا ندماءهم، فهم لديهم «شركاء الهموم»، وهذه التسمية هى التى تحكم ربطة العقد كما يقولون.
ومن الواضح لبيكون أن هذا الاختيار غير مقصور على الضعفاء من الأمراء، بل هو ممتد إلى أقوى الأمراء والملوك، فقد كانوا يصطفون خدامهم أناسًا يبادلونهم إسم الصديق ويسمحون للغير باستعمال هذه التسمية.
بدا ذلك فى عهد «سولا» وهو يحكم روما، وفى عهد «يوليوس قيصر» الذى كان
«بروتس» صديقه المقرب، حتى إنه لم يعاتب إلاَّ هو فى لحظات اغتياله بعبارته المعاتبة
«حتى أنت يا بروتس». وقد كان بروتس هو الرجل المقرب الذى ساقه إلى حتفه.
ويضرب بيكون أمثلة عديدة فى مقالة لأمثال هذه الصداقات.
ومن ثمار الصداقة أنها مصححة لازمة للفهم فضلاً عن كونها مصححه لازمة للشعور. والذهن المثقل بالشواغل والهموم يكون أكثر حاجة إلى النصيحة الخالصة التى يتلقاها من صديقه الأمين.
على أن ثمرة الصداقة هنا غير مقصورة على من يستطيعون إسداء النصح والمشورة الصالحة وإن كان هؤلاء خيرًا وأجدى بلا مراء.
والمزية المشهورة التى يفطن لها العامة والخاصة، هى مزية النصيحة الخالصة من الصديق الأمين.
والنصيحة ضربان: نصيحة فى شئون السلوك والآداب، ونصيحة فى شئون المرافق والمعاملات.
وتأتى بعد ذلك الثمرة الأخيرة وهى: سلام النفس، ومعونه العقل، وتلك الثمرة أشبه بثمار «الرمانة» التى تحتوى الواحدة منها المئات من الفواكه الصغار.
على أنه لا نهاية فيما يختم به بيكون مقاله لا نهاية لإحصاء هذه الفوائد والمزايا، وحسبه أن يضع القاعدة على الاجمال، وعلى الفرد إن لم يستطع أن يقوم بمطالبه على الوجه الأمثل أن يخلى الميدان مالم يكن له صديق أمين.
جريدة المال

المال - خاص

7:56 ص, الأحد, 2 ديسمبر 18