جاء فى أسطورة؛ أن قرية صغيرة تبقت من مملكة قديمة غنية، جار عليها الزمن والغزاة والفقر، ولم يتبق لها سوى سواعد شبابها وأكتاف رجالها وشيوخ الحرف، وأسطورة إخفاء آخر ملوكها ذهبه بخبيئة، تغنى كل سكان القرية! تناقلت أجيال القرية الاسطورة وحلم ثراء اهلها، فقسموا حياتهم بين الكفاح للبقاء احياء وبين البحث عن الكنز! برحلة الكفاح، كان هناك عمل وبناء وتجارة وحساب مخاطر وتعلم حرف جديدة وتدريب وكسب وخسارة.. إلخ. برحلة الذهب، كان هناك التنقيب وتخطيط المشروعات وتكاثر الأحلام ومنافع الثراء. مرت أعوام والقرية الصغيرة الفقيرة تثرى برحلة الكفاح وتتغذى بأحلام الذهب. فجأة ظهر الذهب! وقرر حكماء القرية منحه لأهلها بالكامل لينعموا بالثراء.
بعد الغنى وميلاد الاطمئنان المالى؛ أحجم الناس عن العمل، التطور، التعلم، اختفت مرحلة الكفاح للبقاء وظهرت مساوئ الغنى! لا أحد يعمل أو يريد التعلم أو التدرب أو تطوير صناعته أو الاستثمار فى شيء جديد أو يخطط للربح الخ!؟ ببساطة الشيوخ مؤمنون ماليا لباقى أيامهم، والشباب لا تعوزهم القروض أو التمويل لمشروعات جديدة، والحرف تجمدت عند لحظة اكتشاف الذهب! فلماذا اعمل واتعلم واتدرب واطور نفسى، إذا كان امانى المالى تحقق بتجاوز عملى وتعلمى وتدريبى واستثماري؟ تدريجيا؛ أحجم الناس عن الطموح! العمل والتنمية! التطور والتحديث! فلا احد محتاجا ليعمل أو يكبر او يطمح إلخ! امتلأت البطون، ترهلت الذقون، فرغت العقول، اتخمت الجيوب، سادت القسوة القلوب، تفشت السطحية، عقمت الاحلام.. فلا احد يحتاج إلى الكفاح! تدريجيا اكتنف التراب حياة اهل القرية الذهبية، وأصبحت فائدة الذهب.. خسارة لتطور حياتهم.
استرعت الأسطورة انتباهى لعدة معان هدف ونتيجة رحلة الكفاح للبقاء ورحلة البحث عن الكنز! تفشى الأمان والراحة قتلا الحاجة.. ام الاختراع! تراجع التطوير والتدريب وعزوف الاستثمار بعد تجاوز الجميع الكفاف للثراء! تخمة الراحة جوعت الطموح وحساب المخاطرة! زيادة امان الذهب ثبطت الحاجة لاختراع بدائل لمعانى الثراء.
لا أعرف لماذا استحضرت هذه الأسطورة وأنا اسمع أحد شباب البنوك النابهين، معبرا عن تحفظه على دراسة رفع فائدة البنوك فى المرحلة المقبلة؟ فرؤيتى كغير اقتصادي؛ ستستفيد من ارتفاع الفائدة مع أبناء جيلى لعمل ودائع يتعيشون من عائدها، لمكافحة الغلاء والتضخم وتوفير حد أدنى من تامين معاشهم، من جهة أخرى ستكون وسيلة لاستعادة «الكاش من تحت البلاطة» وزيادة حصيلة البنوك لعمل مشروعات أكثر، ولكن النابه قال إنه قد يكون مفيدا جدا لفئة، ولكن ارتفاع سعر الفائدة سيزيد تكلفة الإقراض والتمويل، ومن ثم زيادة تكلفة الإنتاج ومن ثم تقل الاستثمارات! فزيادة الفوائد على القروض تحبط الاستثمار! فيكون إحجام الاستثمار تقليصا لافتتاح المشروعات، وزيادة البطالة، ووقف التدريب، وتفشى آفات فقر الفكر والجيب، ووقوف الكثيرين على خط الفقر غير القادرين على طرق أبواب البنوك والاستفادة من عائد ارتفاع سعر الفائدة!
فبادرته قائلا، لعل الحل الأمثل إذن خفض الفائدة لتشجيع الاستثمار طبقا لوجهة نظرك، ومن ثم نتجنب العثرات التى أشرت لها؟ فبادرنى رجل اعمال حصيف معلقا: ليس بالضرورة! فخفض الفائدة قد تدفع الشركات لعشوائية الاقتراض، ليس فقط لتمويل الاستثمار الثابت كالمستهدف، ولكن للاستثمار فى العقارات أو تمويل المخزون السلعى او الدخول فى مشروعات فى غير التخصص أو بمخاطرة غير محسوبة (فالمال سهل)، ولا تنسوا أن خفض الفائدة وزيادة التمويلات الخارجية يحتاجان إلى دولار أو يورو، فيزيد الطلب عليها وتضغط بدورها على سعر صرف الجنيه.
تدخل فى الحديث شاب مكافح وعلق مُحبطا: أما انا فمن الجيل الذى لن يستفيد من زيادة الفائدة لأتعيش من ريع ودائعى (ولو أن ابن عمى عملها بستة الاف جم)، لأنه لا يوجد عندى زيادة لأستغنى عنها وأعيش من فائدتها، ولا عندى مشاريع برأس مال كبير يستفيد من انخفاض الفائدة بقروض، والنتيجة إما ستصادفوننى دوما فى الشوارع أو ابحث عن وظيفة أو أفك غضبى على غيرى أو اقعد على قهوة!
كنت اسمع المتحدثين واسطورة قرية الذهب تناوش خيالى، بين رحلة الكفاح للبقاء والبحث عن الذهب، وبين فلسفة آثار فائدة البنوك على حياتنا الآن! ربما لا يوجد رابط مباشر بينهما، ولكننى كمواطن غير اقتصادى جمعنى بالموضوعين تداعيات فكرة ان الحاجة أم الاختراع، ان الكفاح الايجابى نحو الأمان المالى يحفظ شبابنا، وينمى وعينا ومجتمعنا، والبلد بالتبعية، فالكفاح نحو الامن المالى مختلف عن الجرى خلف لقمة العيش! الأول يحتاج إلى فكر ورؤية وهدف وتخطيط وحساب مخاطر، ونموذج عمل وتدريب وانضباط ومتابعة نتائج. أما الجرى وراء لقمة العيش، فقد يدخل أى سباق وبأى تخصص ويرضى بأية نتائج، ويقبل أية معاملة وكفاحه لحفظ النوع لا لتطوير وجوده.
أغلبنا نكافح بالجرى خلف لقمة العيش لتحقيق الأمان المالى، ولكن باختلاف مستوى وتعليم وتدريب ووعى كل شخص، المشكلة عندما يباع لنا الأمان المالى كمنتج لا نتيجة! تجربة الريان أكبر دليل على بدايات خروج مدينة الذهب ومنافسة البنوك، لدرجة بيع العديدين اصولهم وفك مدخراتهم واهمال حرفهم إلخ، لتجميع أكبر وعاء للشرب فيه ريان الفائدة بسعدها! والنتائج موثقة بالمدافن والمستشفيات والمحاكم والمصحات لأصحاب فوائد خسروا حياتهم فوق اموالهم!
فهل فائدة الفائدة خسارة؟ هل نحتاج إلى مزيد من الدراسات وتحديث نماذج الاعمال والاوعية الادخارية وابتكار الإصلاح الاقتصادى لمعادلات جديدة توازن بين الأمان المالى لكبار السن وفاعلية أموال البنوك فى إقراض المشروعات الصغيرة ورواد الاعمال وتقسيم فوائد البنوك لمناطق اقتصادية برقابة وضمانات حقيقية، لتجنب إساءة استخدام حق الاقتراض، فندفن العشوائية والتواكل لنحيا بالتوكل؟!
هل ميراث الاقتصاد الاشتراكى والقطاع العام وقوانين العمل ومكاسب العمال ومسئولية الدولة عن توفير الخبز للشعب، ثم الانفتاح الاستهلاكى وشركات توظيف الأموال وبرامج الجوائز إلخ، فتح لشعب مصر خبيئة ذهب التواكل، لتكون فوائد امانهم المالى، خسارة كفاحهم الحقيقى للبقاء والنمو فى الجمهورية الجديدة؟ أسئلة متعددة أتمنى أن اصل لإجاباتها من المتخصصين فى 2022!
* محامى وكاتب مصرى