عندما يكون وزير الآثار بارتولديا!

محمد بكري

10:48 ص, الخميس, 30 يناير 25

محمد بكري

محمد بكري

10:48 ص, الخميس, 30 يناير 25

نشرت الصحف المصرية خبر ندوة (شامبليون فك رموز اللغة المصرية القديمة)، فى صالون الفكر المصرى بمعرض القاهرة الدولى للكتاب بدورته 56 بمركز المعارض، بحضور وزير آثار أسبق بعنوان: (الوزير يحسم الجدل حول تمثال شامبليون باريس: هل هو مسيء أم لا؟) حيث علق سيادته بـ(هو بفكرنا نحن المصريين إهانة، لكن بفكر الفرنسيين يمثل قدرة شامبليون على فك رموز اللغة المصرية القديمة بمعنى تمكنه. وأضاف: (علينا أن نفكر من وجهة نظر الفرنسيين، فهم مهتمون بالحضارة المصرية القديمة، كما أن التمثال مجرد شيء رمزي، مضيفا أن برلين لديها ألواح نحاسية مكتوب عليها أسماء دينية وصلبان تم وضعها فى الأرض ويسير عليها عامة الشعب)!

ما يسترعى الانتباه عبارة (يحسم الجدل هل هو مسيء أم لا؟)، كما لو كان تعليق سيادته هو فصل الخطاب (الحكومى والشعبي) فى موضوع يمس الكرامة المصرية المهانة، التى يتصدى لها مصريون أُصلاء منذ 2012 مثل السادة/ هشام جاد، زاهى حواس، د. وسيم السيسي، بسام الشماع، وزخم من المصريين الغيورين على الكرامة المصرية تحت الحذاء الشامبليونى منذ 150 عاما! شاملًا 40 مقالا (لتأصيل الإهانة تاريخيا، فنيا، قانونيا، موضوعيا) من كاتب هذه السطور. غير أن تعليق الوزير الأسبق بعد عودته لصفوف المواطنين غير الرسميين وخروجه من صفة الموظف العام، يجعلنا حريصين على تقييم الصورة الذهنية لتعليقه (الحاسم) فى تقديم صورة غير صحيحة فى صورة صحيحة استنادا لصفته السابقة كمرجعية (لحضور الندوة وقراء الميديا لاحقا)! فالتعليق جدلي، صادر عن غير متخصص فى قضية شامبليون، وبدون صفة رسمية للحسم، ومتجاهل لشعور شعبى موثق، ومخالف لرأى حكومى سابق معترض على التمثال، ومُنحاز لرأى الكوليج دى فرانس، ومن أطلقت عليهم (البارتولديين) الموالين لاستباحة الكرامة الوطنية المصرية باسم حرية الإبداع والثقافة المغايرة! وهو ما لا ولن يفت فى عضد محاولات المصريين الجادين فى رفع هذه الإهانة المباشرة.

التعليق المريب للأسبق، يتعارض مباشرة مع أهداف وزارة الآثار الرسمية والمُعلنة من (حماية وصيانة الآثار المصرية والتراث الثقافى والأثرى للبلاد/ تنشيط السياحة المحلية لتعميق وعى المواطنين بتراث وآثار بلادهم وارتباطهم بحضارتهم المعاصرة/ المشاركة مع المنظمات الدولية فى وضع السياسات الدولية المتعلقة بمجالات السياحة والآثار، وإبراز مكانة مصر السياحية والأثرية فى العالم/ تخطيط وتنظيم الحملات الدعائية والترويجية بهدف تنشيط الحركة السياحية)، فهل أهداف الوزارة ومرجعيات الوظيفة السابقة للأسبق تسمح له بتبنى رأى البارتولديين للتفكير بوجهة النظر الفرنسية، والتغاضى عن مشاعر الغضب المصرى ضد هذه الإهانة، لمجرد صدور الحسم من سيادته استغلالا لصفته السابقة؟

تعليق الأسبق؛ تغافل عن زخم التفاصيل التاريخية والفنية المورطة للنحات بارتولدى فى تعمد الإهانة المباشرة لمصر والمصريين، بعد واقعة رفض تمثاله من الخديوى إسماعيل لوضعه بمدخل قناة السويس 1869، فأتى جاهلا بالسياق التاريخى للتغيير الذى أجراه النحات بارتولدى بين النسخة الأولى للتمثال عام 1867 بمعرض باريس إكسبو، حيث كان حذاء شامبليون على رأس أبو الهول الأسطوري، والنسخة الثانية عام 1875 (بعد الرفض الإسماعيلى 1869) بالسوربون/ الكوليج دى فرانس، حيث عدّل بارتولدى وضع الحذاء على رأس ملك مصرى وليس أبو الهول! هذا التغيير يثير تساؤلات حول نوايا النحات ويستدعى تفسيرًا أعمق، وليس الاكتفاء (بحسم) الجدل استنادا لرمزية التمثال فى قدرة شامبليون على فك رموز اللغة المصرية القديمة، وإلا كان بارتولدى وضع الحذاء على حجر رشيد رمز اللغة الهيروغليفية التى استكمل شامبليون خطوات فكها، بعيدا عن تعمد إهانة رمز ملكى مصرى بدون سبب ظاهر محدد، غير زعم الفهم ومعنى التمكن بحذاء على الكرامة المصرية! من هنا انخرط سيادته فى زمرة البارتولديين الحريصين على استمرار ربض الحذاء على هامة الملك المصرى رمز الكرامة المصرية لأسباب لا تخف على أحد! ومن أسف أن يأتى خبر الندوة بعنوانها المريب كمصادرة على حق المصريين فى الاعتراض على التمثال، وتسفيه لكل المحاولات الجادة لإقصائه، رفعا لضرر حقيقى وقائم يستشعر ألمه ووطأته ملايين المصريين، وتستوعبه مسؤولية وزارة أمينة على حماية وصون الرموز التاريخية والدفاع عنها ضد أى إساءة أو تشويه!

من هنا يمكن استخلاص عدة ملاحظات لموقف الأسبق الغريب منها؛ أن التعليق الحاسم لسيادته: يتجاهل ويسفه صراحة مشاعر المصريين ومحاولة الدولة الاعتراض على التمثال/ يتعارض مع دور وزارة الآثار فى حماية التراث المصرى والتعامل مع الأعمال الفنية الأجنبية التى قد تُعتبر مسيئة للرموز المصرية/ يخل بموازنة الوزارة بين احترام التفسيرات الثقافية الأجنبية للأعمال الفنية والحفاظ على كرامة الرموز المصرية/ لا توجد سوابق تاريخية فنية لتصوير شخصيات أجنبية وهى تضع أقدامها على رموز ثقافية مصرية، وتعليق الأسبق يفتح الباب لتجرؤ المزيد من الأفعال المشابهة الحديثة مستقبلا، لنفكر بوجهة نظر أى مُهين يزعم فكرة أو معنى/ كذلك فالتعليق يُضعف أى محاولة لوزارة الآثار والثقافة والحكومة والمصريين لتعزيز الوعى العالمى بأهمية احترام الرموز الثقافية المصرية فى الأعمال الفنية الأجنبية المُسيئة وطلب إزالتها طبقا لقوانينها/ التعليق يدعم تمييع مفهوم الكرامة الوطنية عند الشباب ولو ارتبطت برمز، وفى تبنيه للموقف الفرنسى ما يعزز قبول روح الخنوع وتمرير الإهانة من باب الفن/ التعليق المريب من مسؤول رسمى أسبق فى معرض دولى للكتاب أغلب زواره من الشباب والأجانب، علامة على توغل البارتولديين لوأد محاولات الانتفاضة المصرية للدفاع عن الكرامة المصرية، فى وقت مصر فيه أمسّ ما تكون محتاجة لائتلاف الروح الوطنية لاستعادة قيم ينحرها النظام العالمى الجديد/ بصدوره من رسمى أسبق، فالتعليق يمنح فرجة للغير فى التحدى بوجود رأى يتفهم الموقف الفرنسى وينحر فى الموقف المصري.

لذلك فلا أجد غضاضة – مع كل احترام لسيادته كمواطن غير مستوزر – فى اعتباره بارتولدى الهوى بمصلحة ضبابية لتعليقه! وكان حريًا به أن يتصدى بحزم لهذا التمثال المُشين من واقع صفته السابقة فى معرض دولى له سمعته عالميا، أو على الأقل عدم التطوع (لحسم) قضية تاريخية، وفنية، وقانونية، ثابت فيها بالمستندات والنقد الفني، المسؤولية الفنية التقصيرية للنحات أوجست بارتولدى فى نسخة تمثاله شامبليون 1875! فجاء التعليق على تعليقه، أدعى لـ(حسم) خطورة معناه، وأثره، وتوابعه، ودعوتى العلنية كمصرى مخلص للقضية لوزارتى الآثار والثقافة، للرد رسميا على تعليق سيادته، بإعلان موقف مصر فى القضية من واقع أهداف الوزارة ذاتها، وكرامتها الوطنية، واحترام شعور وغضب مصرييها الشرفاء.

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]