تساءلت بالمقال السابق 2023/2/12 (هل أخطأ شخصيًّا ومهنيًّا النحّات الفرنسى أوجست بارتولدى فى تصميمه تمثال شامبليون داعسًا بحذائه رأس ملك مصرى، عندما استلهمه – كقوله – من أسطورة أوديب بفكّه لغز سؤال أبو الهول، ليكون خطأ بتقديم صورة خادعة رتبت ضررًا للحضارة المصرية والمصريين، بما يستوجب مسئوليته الفنية التقصيرية؟). السؤال يتعلق بمحددات العلاقة بين الإلهام وحرية التعبير عن أفكار الفنان التشكيلى وصور إبداعه الفنى المُجسدة لها، ومدى تدرج نقد العمل المُبدع بين صفات (الجمال والقبح والفشل)، ومدى جواز إضافة صفة (خطأ العمل الفنى) فيما عبّر عنه، ومن ثم إمكانية مساءلة الفنان مدنيًّا عن خطئه الفنى؟ ولموضوعية السؤال تساءلت هل تعتبر صفة الفنان من موانع المسئولية أو العقاب أو أسباب الإباحة، حتى لو أضرّ عملُه الآخرين؟ ردود الأفعال توافقت على كفالة حرية التعبير والإبداع عالميًّا، والنقد الفنى والشعبى هو المعيار الوحيد لمحاسبة الفنان وعمله، بل خلو التقنينات اللاتينية والأنجلوسكسونية والعربية من شمول المسئولية المدنية لتوصيف خطأ الفنان وعمله! من جهة أخرى عرض المقال السابق رؤية نقدية لزاوية دقيقة جدًّا هى دور العمل الفنى فى تزييف الوعى بواسطة خداع الصورة، باختزاله الواقع الحقيقى لبعث إشارة لحقيقة أخرى صحيحة أو خاطئة! باغتنام العمل تجميد لحظة معينة ويجعلها دائمة، فيصدق المشاهد الخدعة ويتعايش معها، ما دام لم تُفند أو يُفضح الخطأ. فتكون النتيجة استمرار خطأ المُزيف وضرر المشاهد لتعاقب الزمن بلا تصحيح، بما يسمح للمنتفعين بتبرير الخطأ كحقيقة فنية. يقوم هذا المقال بمراجعة لضوابط النقد الفنى، على المبدأ العام لحرية التعبير والإبداع، لإمكانية استخلاص عناصر المسئولية الفنية التقصيرية على بعض الأعمال الفنية كتمثال شامبليون؟ ومن ثم جواز استحداث فرع جديد فى المسئولية المدنية، وما المحددات الموضوعية التى تخرج المسئولية عن الشخصنة، وتخضعها للتقييم ورقابة القضاء إن ثبتت الخطأ على الفنان التشكيلى؟ لبلورة العناصر الموضوعية لقضية تمثال شامبليون، يلزم الإحاطة بالظروف العامة له ولبارتولدى. فتاريخيًّا 1: وبالمستندات، فشامبليون مُستكمل لجهود سابقيه فى فك واكتشاف اللغة الهيروغليفية، بداية من ابن وحشية، وحتى الألمانى كارل ريتشارد ليبسيوس، ومن ثم تنحسر عنه صفة المكتشف الوحيد. وتاريخيًّا 2: فواقعة بارتولدى والخديو إسماعيل 1869 ورفضه مشروع تمثاله (مصر تنير الطريق لآسيا)، وتفويت عليه سعره الخيالى والخلود الفنى وغضب بارتولدى لذلك، ثم تطويره للمشروع وتحويله لتمثال الحرية الأمريكى، هى واقعة مثبتة مستنديًّا وتاريخيًّا عالميًّا، ومن ثم فلدينا خلاف تاريخى يشكل سببًا واقعيًّا لضغينة فنية إنسانية متوقعة. مهنيًّا: فبارتولدى من نحّاتى فرنسا المحترفين المتمكنين من فنهم. علميًّا: تعامل بارتولدى مع شامبليون (كمكتشف وحيد) لفك الهيروغليفية، فجعله (يمسك العالم فى وضع مميز وفى الوقت نفسه بالانتصار والتواضع)، والحقيقة أن شامبليون (مُستكمل) لاكتشافات وأبحاث زخم من العلماء كالمثبت علميًّا وتاريخيًّا! فنيًّا: قام الفنان أنجرس 1808 (قبل بارتولدى بـ68 سنة) برسم لوحته الشهيرة أسطورة (أوديب وأبو الهول) وهو يضع قدمه على حجر كبير من الأطلال. تشكيليًّا: فمقولة بارتولدى باستلهامه الأسطورة، كما سبق، هو تطابق تشكيلى فى سرقة وضعية وقفة أوديب مع تمثال شامبليون، لكن بارتولدى استبدل بالحجر رأس ملك مصرى! أرشيفيًّا: لا توجد دراسة نقدية للتمثال، ولا تشمله قوائم أعمال بارتولدى أو يظهر عند البحث عن أعماله! أكاديميًّا: اعترف الموقع الرسمى للكوليج ديى فرانس (إن الوضع الذى قدّمه النحّات لشامبليون قد يسيء لأحاسيسنا المعاصرة)، وبأنه استلهم وضعية شامبليون يدعس بحذائه رأس الملك المصرى، من مقولة أدبية للمستشرق فولنى وأسطورة أوديب وفكّه لغز أبو الهول. يقول بارتولدى «أردت أن أجعل شامبليون مثل أوديب ينتزع السر من أبو الهول»، ولتبرير وضعية الحذاء على الرأس الملكى ذكر الموقع (لم يكن ذلك قصد بارتولدى، فلم يكن لديه سوى كتلة واحدة، كان عليه العمل على محور عمودى يضع العالم فى موقع مهيمن). النتيجة الفنية التى يقدمها تمثال شامبليون لبارتولدى هى عرضه صورة خادعة خالدة، بتشويهه فكرة لوحة أنجرس التى سرقها، باختزاله لحظة زمنية فى معنى وضعية التمثال، بتزييفه واقع (استكمال) شامبليون فك مغاليق لغة، وتزييفه لهذا الواقع بقَصره الاكتشاف عليه بلا سند! ثم ترقيته من انتصاره العلمى على لغز اللغة، لتطوير فكرته لعنصرية ثقافية تمتهن رمز حضارة كاملة! ببساطة ارتبط شامبليون بتحدى حجر رشيد مفتاح حل اللغز، ولكن لماذا فضّل بارتولدى دعسه رأس الملك، وكان أوقع به استبدال حجر رشيد به؟ إذن، ما الرسائل غير المباشرة التى قصد بارتولدى أن ينقلها تمثالُه للمشاهد بأى عصر ومن أى جنسية أو ثقافة؟ يطالع المشاهد تمثالًا ضخمًا للعالِم شامبليون، بكامل جسده وملابسه الأنيقة، بتفاصيلها، بتشكيل وتكوين حركى ولغة جسد تترجم التفكر، والهيمنة، والفوقية! وهناك بأسفل حذائه الأيسر وبحجم لا يصل لربعه، يرقد رأس إنسانى مبتور مكلَّل بتاج ملكى، مُسبل العينين ساكن، مستلقٍ على قفاه، لا حيلة له! فهناك فوقية جسدية لشامبليون مُسيطرة ودونية مستكينة لملك مصر! فماذا يفهم المشاهد من هذه الصورة الخادعة المستمرة زمنيًّا؟ ولماذا حرصت الكوليج دى فرانس على أن تقول (إن الوضع الذى قدّمه النحّات لشامبليون قد يسىء إلى أحاسيسنا المعاصرة)؟ فهل فى زمن عرضه كانت الأحاسيس مقبولة باستباحة مصر فرنسيًّا؟ بلورة معطيات الظروف العامة تحتِّم علينا الآن فك لغز بارتولدى، وتفسير عمله (تمثال شامبليون)، وهل فعلًا يعتبر عملًا قبيحًا أم فاشلًا أم خطأ، تجاوز حدود النقد الفنى للدخول لمعايير الخطأ المهنى الشخصى المستوجب لمسئوليته التقصيرية؟ فتكون بداية لفتح مباحث جديدة بالنقد الفنى والمسئولية الفنية التقصيرية للفنان التشكيلى، بما قد يمنح مصر حقًّا موضوعيًّا وقانونيًّا فى رفع هذه المهانة التاريخية، لتصحيح الروابط الفرنسية المصرية التى اعتبر السفير الفرنسى رومان روماتييه أن التمثال (تعبير عنها ورمز للمناخ الثقافى)! وهذا ما سنكتشفه فى المقال القادم!
* محامى وكاتب مصرى