عقائد المفكرين في القرن العشرين

10:37 ص, الثلاثاء, 4 سبتمبر 18

جريدة المال

المال - خاص

10:37 ص, الثلاثاء, 4 سبتمبر 18

مشكلة الشر

ربّ ورد إلى الخاطر أن هذا الفصل تكرارٌ لكتاب «إبليس» الذى تناولناه سلفًا للأستاذ العقاد، بيد أن هذا الخاطر يزول فورًا، لأن كتاب «عقائد المفكرين فى القرن العشرين» أسبق صدورًا بعشر سنوات من كتاب «إبليس»، فقد صدر كتاب «عقائد المفكرين» عام 1948، بينما صدر كتاب «إبليس» عام 1958، وعلى ذلك فلا ينبغى لنا أن نتوقع أن هذا الفصل عن «مشكلة الشر» محض تكرار أو ترديد لما ورد لاحقًا بكتاب «إبليس».

يبدأ الأستاذ العقاد هذا الفصل بأن مشكلة الشر، هى مشكلة المشكلات فى جميع العصور.

وأن القرن العشرين لم يطرأ فيه طارئ من الشر لم يكن معروفًا قبل ذلك إلى أبعد العصور التى تعيها ذاكرة الإنسان.

فالناس قد عرفوا من قديم ـ الحروب والفتن، وعرفوا العوارض المتكررة، وعرفوا المظالم ودروب العدوان، وقد ثقل أو خف منها ما ثقل أو خف فى القرن العشرين، إلاَّ أنه لم يَعْرف نوعًا جديدًا من الشر لم يكن معهودا فيما قبله.

على أنه من آفات القرن العشرين، أن أسباب الشكوى فيه ــ أكثر وأعظم من جهتين:

فحروبه الطاحنة شملت الكرة الأرضية وعمت الأقوياء والضعفاء، ويخشى فى كل وقت أن تُستأنف.

ولأن النفوس فى القرن العشرين تدعى الحقوق وتلح فى المحاسبة، فلم يكن مستغربًا فيما مضى أن يداس حق إنسان أو جماعات من الناس، ولم يكن هنالك محاسبة لأصحاب السلطان على الشرور والمظالم، ولكن القرن العشرين أتى بما يسمح بالاعتراض، وبالمطالبة بالحق بل والجزاء.
وفحوى ذلك أن مشكلة الشر تفاقمت فى القرن العشرين من جانبين:

جانب الضخامة فى الشرور.

وجانب الإلحاح فى الإدعاء والمحاسبة.

وترتب على ذلك أن السائلين صاروا أكثر سؤالاً، وأجاب المفكرون الغربيون كثيرًا على هذا السؤال، وتفرعت بهم الخواطر..
منهم من قال إن الشر وَهْمٌ يزول، ولا بقاء له مع الخير.
ومنهم من رأى أن الشر لا وجود له بذاته، وإنما هو غياب الخير أو نقصه.
ومنهم من رأى أن الشر ضرورة ناجمة من التقاء الخيرات الكثيرة.
ومنهم من رأى أن الشر تربية نافعة للآدميين، وأن تجارب التاريخ أثبتت أن الشدة أنفع لهم من اللين الرخاء فى كثير من الأحيان.
ومنهم من رأى أن الشر «خير» يوضع فى غير موضعه، الاعتراض عليه كالاعتراض على فيضان الأنهار.. فهى خير فى لباس شر !
ومنهم من رأى أن حرية الإرادة نعمة إلهية، ولا تكون إلاَّ فى عالم فيه الخير والشر.
ومنهم من رأى أن الشر هو تمام الخير الذى يوجد معه وينعدم بانعدامه، وأنه لا معنى للشىء بغير نقيضه، فلا شجاعة بغير خطر، ولا معنى للصلح بغير إساءة، وهكذا.
ومنهم من رأى أن الفروق بين الأشياء لازمة، ولولاها لما وجد شىءٌ مستقل عن شىء، ومع وجود الفروق لا مناص من الشكوى.
وجدير بالذكر، أن جميع هذه الآراء المتباينة، أُبديت من عديدين، وفى مناسبات ومواضع مختلفة، وعبر وسائل متغيرة ـ يحتاج ولاشك إلى جهد عريض، وهذا هو ما بذله الأستاذ العقاد وأشار إليه فى ختام كتابه.
إن زبدة الدراسات والمقارنات التى طرحت، أن الحروب أفادت كما أضرت، ووصلت فى جانب وقطعت فى جانب آخر، بل قد يكون النفع فيها أكبر من الضرر.

أنفع المخترعات والمعارف العلمية جاءت عرضًا بمناسبة التنافس على صنع السلاح الفعال. وتستطيع أن ترى ذلك فى مبلغ الإتقان الذى شمل الطائرات وسرعتها، أو إفادة الذرة فى جوانب عديدة غير جانب الشر الذى دَعَا إلى صنع القنبلة الذرية !

قال الأستاذ «لويس- Lewis» صاحب كتاب«مشكلة الألم- The problem of pain» «إن القدرة على كل شىء معناها القدرة على ما هو ممكن فى أساسه…»

وقال الأستاذ سيدنى دارك- فيما يورد الأستاذ العقاد- قال فى كتابه : «الدين فى إنجلترا غدًا ـ Religion in the England of Tomorrow» إننا نعيش بين العجائب والخفايا، وبغيرها تصبح الحياة ثقيلة مملة.

وكتب «جورج سانتسبرى- Saintabaury» إن حرية الفكر المعهود لا تسود كتابًا واحدًا ولا صفحة واحدة دون أن تقرر- أو يبدو فيها – أن ما فوق الطبيعة ينبغى أن يخضع لمقاييس الطبيعة.

أما الأستاذ «مالكولم جرانت»- فقد أورد فى كتابه «حجة جديدة فى الكلام عن الله والخلود- «A New Argument for God and Survival – أنه حين نبدأ بفكرة الإله الرحيم، فإنه يتحدانا الكون الناقص، ولا سبيل أمام تحديه إلاَّ ثلاثة مسالك مفتوحة :

إنكار وجود الله كما فعل المسرفون فى الإنكار.
أو إنكار قدرته المطلقة على أحوال الطبيعة كما فعل «ميل».
أو إنكار صحة وجود الشر كما فعلت «مسز إدى».
على أن هذه المسالك الثلاثة ـ فيما قال «مالكولم» ـ غير مقنعة، ولا يبقى إلاَّ القول مع «هيوم» إن الله بمعزل عن سعادة الإنسان وشقائه، أو أن نعرف أسبابًا مقنعة بأن الشقاء الذى فى الكون واعتقاد وجود الله لا يتناقضان.

* * *
بعد ذلك عرض الأستاذ العقاد ـ لما قاله «أيونج» مدرس الأخلاق بكامبردج فى كتابه عن «مسائل الفلسفة الأساسية». لينتهى إلى أن معظم الحلول التى يرجحها أوساط المفكرين فى القرن العشرين، ليس فيها شىء مبتكر لم يُسمع من قبله، وأن الجديد فى المسألة هو من الناحية الشعورية كما أسلف، ويدور حول وجهة الشعور لا على أصله، فقد كانت شرور الحروب العالمية أوسع ميدانًا وأشد فى إثارة السخط الذى لم ينصرف دفعة واحدة إلى التمرد والإنكار، واستخلص الباحثون من استقراء أحوال الحروب أنها تضر وتنفع، وتقطع وتصل، وأن أضرارها لا تزيد شيئًا على طبيعة البشر.

وأخيرًا فإن القرن العشرين قد ترك مشكلة الشر حيث هى من الوجهة الفكرية الفلسفية، أما من الوجهة الشعورية فقد كان الشعور بأن شرور العالم لا تطاق ـ صدمة من جانب، ودفعة من جانب، فيما لا مفر إزاءه من الإقرار بان مشكلة الشر عقدة باقية.

جريدة المال

المال - خاص

10:37 ص, الثلاثاء, 4 سبتمبر 18