عقائد المفكرين فى القرن العشرين (6)

رجائى عطية

12:49 م, الأربعاء, 29 أغسطس 18

رجائى عطية

رجائى عطية

12:49 م, الأربعاء, 29 أغسطس 18

قوانين المادة

تنبنى المذاهب المادية على الوقائع والحقائق الملموسة المحسوسة، ومن هنا كانت المادة عند الماديين حقيقة الحقائق الثابتة التى لا يعتريها شك. لأنها ملموسة محسوسة ومحصورة فى مكان محدود.

وبشيوع العلوم التجريبية فى القرون الأخيرة، شاعت معها ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ قوانين الحركة والحرارة والضوء وسائر القوانين الطبيعية. وهذه هى قوانين الكون التى تسيطر على حركاته وسكناته وتفسر ظواهره وأفلاكه ومعادنه الأرضية.

هى إذن حقائق ملموسة محسوسة، وليست فروضًا تخوض فيما وراء المادة.

ووقعت فى السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر حوادث «علمية» غيرت صورة المادة كما عرفها الأقدمون.
فقد عرف الكيميون قبل ذلك أن عناصر المادة أكثر من أربعة، وغير محصورة ـ كما ظُن فى السابق ـ فى النار والتراب والهواء والماء.

وعرفوا أن ذرة «الهيدروجين» (أخف العناصر) ليست هى أصغر جسم من أجسام المادة.

وعرفوا «الكهرب» الذى تحسب ذرة الهيدروجين جبلاً ضخمًا بالقياس إليه
وأفلت من «المادة» كل شىء كانوا يحسبونه مضرب المثل فى الثبوت و«الحقيقة»
فاللون من الشعاع، والشعاع هزات فى الأثير.

والوزن جاذبية، والجاذبية فرض من الفروض.

والجرم نفسه متوقف على الشحنة الكهربية، وعلى سرعة الجسم فى الحركة، ونصيبه من الحرارة.

والحرارة حركة.

والحركة فى الأثير.

والأثير فضاء أو كالفضاء.

حتى الصلابة التى تصدم الحس ـ أصبحت درجة من درجات القوة تقاس بالحساب، وهو حساب قابل للخطأ والاختلال.

وعندما عاد العلماء التجريديون إلى القوانين الطبيعية التى تحكم الحرارة والحركة والضوء وكل ما فى عالم المادة من كهارب وذرات ـ وجدوا لها قانونًا واحدًا وهو الخطأ والاحتمال.

أحدهم «ماكس بلانك- Max Plank» -بولونى، وهو صاحب نظرية المقدار أو الكوانتم، وخلاصتها أن الإشعاع قفزات لا تعرف القفزة التالية من القفزة السابقة عليها ـ إلاَّ بالتقدير والترجيح.

والأستاذ «هيزنبرج- Werner Heisenberg»- هو صاحب نظرية الخطأ أو الاحتمال فى الطبيعة، وخلاصة براهينه الكثيرة فى هذا الباب ـ أن الوضع والسرعة لكهرب معين لا يمكن تحقيقهما فى لحظة معينة على وجه اليقين.

والأستاذ «شرودنجر – Erwin Schrodinger» – هو المجرب المحقق الذى استقرت تجاربه كلها عند نتيجة واحدة تؤيد نظرية «إكسنر- Exner»- وهى أن تقدير ما سوف يحدث تطبيقًا للقوانين المادية ممكن، ولكنه غير محتوم.

وهذه النظريات للعلماء الثلاثة، يقررها معهم علماء الطبيعة ولا يخالفونهم فى مبادئها، ولكن العلماء الثلاثة اشتهروا بالنظريات التى تدور على نقص القوانين الطبيعية لأنهم استطردوا فى مباحثها حتى شملوا بها المباحث العقلية والدينية كالقضاء والقدر وحرية الإرادة.

فلا اختلاف على نقص القوانين الطبيعية وأخذها بالتقريب دون الضبط المحكم، وإنما الاختلاف على النتائج التى يرتبونها على هذه النظريات والملاحظات.

فهل نتيجة ذلك إسقاط حساب الأسباب والعلل وإلغاء القوانين الطبيعية ؟

إذن «بلانك» نفسه لا يقول بذلك، ويقرر فى كتابـه «إلـى أيـن يذهـب العلم Where is science going» يقرر أن الأسباب الطبيعية عاملة فى كل حال، وضرب أمثلة لذلك بسرعة كل كهرب ووزنـه.

ولم ير المعقبون على رأى «بلانك» أنه حسم خلافًا ذا بال، واستدرك بلانك بالتعقيب على الآراء الحديثة فى السببية وحرية الإرادة، مقررًا أنه فى العالم الواسع الذى لا يحده القياس ـ توجد نقطة واحدة لا ينطبق عليها العلم ولا أسلوب من أساليب البحث. تلك النقطة هى الذات الفردية، فإنها لصغيرة فى رحاب الوجود، ولكنها فى ذاتها عالم كامل يحيط بحياتنا العاطفية وبمشيئتنا وفكرتنا. هذا «الكون الذاتى» هو مصدر لأعمق أحزاننا وأرفع أفراحنا، ولا سبيل عليه للقوى الخارجية.

وقد يخطر لكثيرين أن يسألوا : إنْ صح هذا ـ أفلا تكون حرية الفرد وهمًا ظاهرًا مرجعه إلى عيبٍ فى أساليب فهمنا ؟

يرى الأستاذ العقاد أن عرض المسألة على هذا النحو خطأ كالظن بأن الإنسان يعجز عن اللحاق بظله. إذ أن الإنسان لا يخضع فى بعض الحالات لقانون السببية، وهذه حقيقة قائمة على أساس من المنطق، كالقضية التى تقول إن الجزء أصغر من كله.

أما «شرود نجر» فرأيه- فيما يقول الأستاذ العقاد- كهذا الرأى فى التفرقة بين عوامل المادة الحية وغير الحية، وختم رسالته «ما هى الحياة»- بالتساؤل عن الشخصية والروح، وقرر أن «الوعى» ظاهرة مفردة لا تقبل الجمع، وأن كل ما يمكن الجزم به هو أن الشخصية لا تتكرر وأنها قوام مستقل عن كل قوام.

ويختم الأستاذ العقاد هذا الفصل، منوهًا بأنه سرد تلك الآراء لغرض واحد، وهو بيان أن القوانين الطبيعية لا تتخذ فى القرن العشرين حجة للتعطيل والإنكار، بل هى أقرب إلى التشكيك فى التعطيل والإنكار، إنْ لم يقل إنها أقرب إلى مباحث العقيدة والإيمان.

إن المادة اليوم- فيما يقول- لا تصد المفكرين عن عالـم الحقائـق المجـردة، ولا هم يتخذون من صلابتها وجسامتها شرطًا للحقيقة الثابتة. إن المادة فى القرن العشرين اقتربت من عالم الفكر المجرد، بل دخلته وأصبحت فى تقدير الثقات «عملية رياضية»، أو نسبة من النسب التى تقاس بمعادلات الحساب.

[email protected]
www. ragai2009.com
 

رجائى عطية

رجائى عطية

12:49 م, الأربعاء, 29 أغسطس 18