عقائد المفكرين فى القرن العشرين (11)

رجائى عطية

10:56 ص, الخميس, 6 سبتمبر 18

رجائى عطية

رجائى عطية

10:56 ص, الخميس, 6 سبتمبر 18

 
عقائد العلماء

الشخصية الثانية التى اختارها الأستاذ العقاد فى حديثه عن عقائد العلماء، طبيب آخر من الفرنسـيين، اشـتغل مثل «كاريل» بمباحث التشريح والعلم الطبيعى، وعمل مع الأستاذ «كورى» وقرينته (وهى المعروفة بمدام كورى).

تسامعت المعاهد الطبيعة بتقريراته العلمية والطبية، فاستدعاه «معهد روكفلر» لمواصلة بحوثه مع أعضائه فى خصائص الجراح وعلاجها، ومكث فى بحوثه هناك سبع سنوات عاد بعدها إلى فرنسا حيث تولى رئاسة «معهد باستير» للمباحث البيولوجية الطبية، واختير بعد عشر سنوات- سنة 1937 – مديرًا لمعهد الدراسات العليا بجامعة السوربون، ونال سنة 1944 جائزة جامعة لوزان لفلسفة العلوم.

كانت هذه المقدمة لازمة للتعريف بالرجل لتقدير عقيدته، والذى يرى الأستاذ العقاد أنه يضارع «كاريل» فى اطمئنانه إلى عقيدته ـ هذا الطبيب العالم هو «ليكونت دى نوى De Nouy» ـ صاحب كتاب القدر الإنسانى أو قدر الإنسان «Human Destiny» وفحوى رسالته فيه أن العقيدة لا تقاس بالمنطق والحساب، أو أن الضمير الإنسانى يؤمن بجدول الضرب أو التجربة الكمية، وإنما طبيعة الإيمان من طبيعة الحياة، وهى سر لم توضحه نظرية من نظريات العلوم، ومدار الإيمان عنده هو شعار الفيلسوف الأسبانى «أنا مونو ـ Unamuno». وهو : «أن اعتقادك فى الله هو أن ترغب فى وجوده، وتزيد على هذا أن تبنى عملك على أنه موجود».

وفى كتابه «القدر الإنسانى» أو قدر الإنسان، عرض «دى نوى» فضل التدين العميق، فى الوقاية من غوائل الجحود، وجعل يطبق قوانين التطور على الضرورات الروحانية والخلقية، مبديًا أن واجب الإنسان أن يزيح جانبًا معالم حضارته الباطلة، ويقيم فى مكانها معالمه الصادقة.. وهى الكمال الذى يوافق الكرامة الإنسانية.

* * *

ومن العلماء المؤمنين «روبرت بروم- Broom»- عضو الجمعية الملكية البريطانية، و«وليام براون ـ Brown» ـ أستاذ علم النفس بجامعة أكسفورد، وصاحب التجارب المشهورة فى العلاج النفسى، والسير «آرثر تومسون- Thomson»- أستاذ التاريخ الطبيعى بجامعة ابردين، والأستاذ «جوردون» عضو جماعة الأطباء الملكية بأدنبرة.

هؤلاء يتناولون العقيدة من نواح متفرقة، ولا تجتمع منهم مدرسة خاصة كمدرسة العلماء الباحثين فى الذرة وأصل المادة.

وقد سُئل الأستاذ «بروم» عن عقيدته الدينية باعتباره من رجال العلم الحديث، فأجاب إجابة مسهبة ضمن مجموعة «الروح العصرى نحو فلسفة الأديان»- أورد الأستاذ العقاد جانبًا كبيرًا منها، جوهره ما أبداه من أن مباحثه فى الخمسين سنة الأخيرة تفرغت لدراسة الحفريات الفقارية، ولم تقنعه هذه المباحث بأن أنواع الحياة الأخيرة قد جاءت من طريق التطور وكفى، بل اقنعته كذلك بأن هذا التطور لم يحدث جزافًا ولا عرضًا، ولكنه حدث بهداية أو هدايات روحانية.

وقال الأستاذ «براون» فى ذات مجموعة «الروح العصرى نحو فلسفة الأديان» ـــ قال بياناً طويلاً أبدى فيه معتقده، وفرق فى البداية بين صورتين للتطور : التطور فى الكون، وتطور الكون نفسه. وهما صورتان متمايزتان. 

وثانيتهما هى التى تنتمى إلى ما وراء الطبيعة، وتختلف جدًّا عن صور الأحياء الفرادى فى تطورهم فى الكون حسب بيئة معيِنة، بينما ليس للكون بيئة واحدة معينة، فكل البيئات مطوية فيه، والزمان والمكان فيه.

وأضاف أن استقصاء التطورات إلى مداها، يرينا أن العلم بقواعده حرىٌّ أن يقودنا إلى غير العلم.

وأنه ليس هناك ما يمنع أن نفهم أن العقل الواعى-وإن تطور فى وظائفه الحيوية- يتدرج شيئًا فشيئًا إلى حال من الاستقلال، ويصبح كيانًا له «وحدة» تبقى بعد الجسد.

وصفوة كلام هذا العالم النفسانى- فيما يستخلص الأستاذ العقاد بعد أن أورد كلامه- أن تصحيح النفس هو ردها إلى الشعور بهذه القيم والقدرة على تمليها، وأنه ما من نفسٍ تمرض وفيها ثقة بالجمال، والحق والخير- وأن الديانة المثلى هى قوام هذه الصحة النفسية، وأن وظائف العقل تترقى وتسمو لتتهيأ لإدراك هذه المعانى، ولا يعقل وقد ترقى إليها أن يعود لينغمس فى المادية الجسدية.

أما السير «آرثر تومسون»- فإنه يعول كثيرًا على تخفف الكثافة المادية واقترابها من «اللاموزونات» أى المعانى التى لا توزن كالفكر والعاطفة والعناية «Imponderables»، ويقول إننا فى زمن شفت فيه الأرض الصلب وفقد فيه الأثير كيانه المادى، ومن ثم فإنه أقل الأزمنة صلاحية للغلو فى التأويلات المادية.
وساق السير تومسون بيانًا مسهبًا فى جوابه للسائلين عن عقيدته، فـى مجموعـة «العلم والدين» ـ فقابل بين العلم باعتباره صيغًا وصفية، وبين الدين الذى فى جانبه العقلى تفسيرًا علويًّا أو خفيًّا، ومن ثم فلا موجب للتعارض الحاسم بينهما، ومهد لهذا التقابل بين العلم والدين بأن الإنسان قد أحس لزوم الدين كلما انتهى إلى قصاراه من العمل أو الحس أو التفكير، وأنه ليس للعقل المتدين أن يأسى لأن علم الطبيعة لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة، فهذه ليست وجهته. 

فإذا كان ليس من عمل الطبيعيين أن يبحثوا فى الله كما زعم خطأً مستر «لانجدون دافيز» فى كتابه عن الإنسان وعالمه، فإن أعظم خدمة قام بها العلم أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى.

وأنه لا يجاوز المعنى الحرفى حين يقول إن العلم أنشأ للإنسان سماءً جديدةً وأرضًا جديدةً، وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلى، فإذا به لا يجد السلام إلاَّ حيث يتخطى مدى الفهم، ويبلغ اليقين والاطمئنان إلى الله.

[email protected]
www. ragai2009.com
 

رجائى عطية

رجائى عطية

10:56 ص, الخميس, 6 سبتمبر 18