عشان حمادة يلعب!

محمد بكري

9:06 ص, الأحد, 13 أكتوبر 24

محمد بكري

محمد بكري

9:06 ص, الأحد, 13 أكتوبر 24

شق موس الفجر ستر الظلام، عن أذان، تأوهات مختلفة، وعيون تتفتح وأخرى تستسلم! ليفرد جناحه على مدينة تعوم فى التناقضات والمواجع والآمال الظامئة والأحلام المدينة! فينقشع يوم جديد عن ملايين العيون، الساعية فى الدروب والطرقات، تقلب فى حزم التنازلات والتضحيات والمخاطر والمساومات والغصات، التى سيهاديها بها يومها من أجل ابتسامة حمادة! ففى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، كان اسمى “حمادة وهبة” رمزا للطفولة والأبناء والأحفاد والذرية، التى تتقطع معهم أنفاس الكبار فى حزم دروب حياتهم “عشان حمادة يلعب”!

استيقظ أحد أيام أغسطس الحارقة على عجوز وابنه وزوجته، وهم يجمعون “عدة الشغل”، 3 أوعية بلاستيكية مملوءة بالماء للمنتصف، بكل حوض ٤ عرائس لعبة لطفل بلاستيكى بمايوه، يحرك ذراعيه بزمبلك ليعوم فى الحوض! وانطلق الثلاثة لإشارة مرور الانعتاق، لتبدأ رحلتهم اليومية بهتاف البقاء (عشان حمادة يلعب)! ومن حناجر متسلخة بشطة فول الصباح والزيت الزّنخ، انطلقت تنوعيات نشاز لترنيمتهم (يا لعبة صينى فى مية نيلى يا حمادة! يا آخرة صبرى وشقى عمرى يا حمادة! يا وجع قلبى فى زمن بيجرى يا حمادة!).

وما هى دقائق حتى عام الثلاثة فى “ترعة السيارات” المنتظرة فرج الإشارة التى بدت دهرية وسط لظى اليوم والأسفلت والعرق وأمواج التكييف! وطافت الستة عيون بأرجلها المتهالكة، بين نوافذ سيارات فارهة مكيفة، شبابيك ميكروباصات، تاكسيات، تكاتك متمردة، وأذرع تدفع سخونة الحر، بينما يصرخون لتحقيق تميمتهم، عشان حمادة يلعب آخر النهار بقروشهم المعروقة!

انسدلت إحدى النوافذ المكيفة ببطء، وطلت منها عينان مندهشتان لوجه حليق، تفرّس فى العجوز قائلا بنبرة تبكيت (مش عيب على سنك تشتغل فى لعب العيال، وصينى كمان؟) بلع العجوز الإهانة الشيك، وأرخى رقبته هامسا وأصابعه المعروقة تداعب حمادة فى مياه الوعاء (طب يا لعبة صينى فى مية غيري يا حمادة! يابو قورة مليانة خبرة يا حمادة! يا كايدهم بعومك يا حمادة! يا زمبلك لعبنا وهمنا يا حمادة! يا مبلبط في رملنا يا حمادة! يا بو ربع دولار يا حمادة – خدلك حمادة وكمل لعبتك يا كبيرنا! خلي حمادة بتاعي يلعب، وحماداتك يكسّروها زكا عنك وتكييفك! ينفع كده يا باشا؟).

ضجر الوجه الحليق من التعليق الصفيق، وسحب الزجاج لأعلى بسرعة، ليرد على هاتف يستعجل حضوره لتوقيع عقد بيع مصنعه العتيد، (سارحا بعين فى وعد المستثمر بالتصرف مع زخم العمال والموظفين، وبعين أخرى فى تحويل مقدم فيلا سان تورينى، ويخت موناكو، وطقم الجيت سكى لأحفاده وأصدقائهم بالعلمين)! انصرف العجوز يتمم على جنيهات زوجة ابنه “المنفتحة ابتسامة وصدرا” من بيع حمادتين ضمنا عيش وجبن العشاء، عشان حمادة بتاعهم يلعب فى الطين بمزاج! (فصرامة وزهق وإرهاق وجه ابنه، انطبعوا على ماء الحوض، فلم يفلحوا فى بيع لعب تعوم فى ديونه وفقره، ومدينة كاملة مرهونة لحمادتها!).

فتدريجيا ومع السنين والضغوط والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أصبح حمادة رمزا للأسر الغنية، المستثمرين ورجال الأعمال، أهل النخبة الاجتماعية، شباب الساحل الشمالى والعلمين، المستفيدين من تقلب أحوال المدينة، فيتدبر كبارهم كم وكيف التنازلات، والمخاطر، والتضحيات، والمساومات.. عشان حمادة يلعب! أصبح لعب حمادة أو تأمين لعبه وملاعبه، المبرر الواقعى والموضوعى لتصرفات وقرارات الكبار، ولو كانت تنازلاتهم وتضحياتهم على حساب فجر الأيام والسنين القادمة! فهل من هدف أو رجاء أكثر من ضمان وتأمين لعب حمادة وإخوته! فألعاب حمادة بدورها تطورت، وتغوّلت، ومطالبها تنوعت وتشرست! ولانتزاع ابتسامة حمادة، فالتكلفة قد تكون دموية ومُفلسة ومهينة أحيانا كثيرة! ومع ذلك لا يرى كبارهم سوى شق البسمة والراحة على وجهه الكالح الشره الناطق بـتبجح (هل من مزيد؟). ولأن حمادة هو الامتداد والأمل الكاذب، فسعادته مهمة ومحورية لإضاءة زوايا المجتمع ولو بالنار، الجوع، الغلاء، البطالة، والقرارات الموجعة إن احتاجتها ابتسامته!

ابتسم العجوز مُشجعا لزوجة ابنه المنفتحة وهى تلملم كرامتها وصداريتها، مُستندة إلى كتف زوجها الساقط من حمل الأوعية البلاستيكية، وصوت ضجيج أذرع الحمادات المتمردة من عدم أخذ طريقها لأيدى الزبائن، يُذكر الثلاثة بغياب الغموس عن طبلية العشاء! وفى لفتة درامية من زوجة الابن لسائق مرسيدس، رأته وهو يطيح باللعبة المنكوبة على التابلوه، بعدما دفع ثمنها بضع نظرات ولمسات شبقة استباحت طبقة كاملة، ارتضتها الفتاة عشان حمادة يلعب! أما سائق التوكتوك، فعلق حمادة فى المراية وذراعاه تعومان فى الهواء بترنيمة جديدة يرددها (كله يقلّب جيبه.. ويدفع)!

ومع تلوى خطوات الأرجل المُنهكة بين ترعة السيارات، والنوافذ الساجنة لأنفاس تتلوى لهفة على مصير حماداتهم، أخذت إشارة المرور تُفتح وتُغلق ببطء شديد، حتى لتحسب الزمن قد استحال للعبة حمادية لا تنتهى، إلا من 6 عيون مرهقة ومحبطة وآملة، تُذكر الجميع بحتمية فتح الإشارة، نهاية اليوم، الرحلة، والهدف.. فحمادة لسه بيلعب!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]