المال ـ خاص
لحظات من الانتظار وأنت ترى مجموعة من الرجال والنساء على خشبة المسرح، يقبعون خلف أبواب قديمة بشراعات، وفى الخلفية موسيقى تراثية صعيدية تميل للهدوء، وبمقدمة المسرح خمسة كراسى هى عدد الممثلين على الخشبة، وفى قاع المسرح شاشة عليها صورة ثابتة لشباك مفتوح .
فجأة يتحرك هذا الجمع القليل ليجلس كل واحد منهم على كرسيه لينطلقوا فى الحكى، يبدءون بذكر الأنبياء والأولياء وأصحاب القصص التراثية القديمة والمحفورة فى “الذاكرة الجمعية” لكثير من المصريين فى الوجهين القبلى والبحرى .
وبعد لحظات قليلة تكتشف أن ما يُسرَد أمامك هو حكايات صعيدية خالصة، تتحدث عن أهمية الشرف والكرم والتقاليد، وستدخل من بوابة هذا العالم الفريد، ليحكى أمامك حكايات ويحفر بذاكرتك شكل هذا المجتمع وأهم الأطر التى ينصاع الجميع إليها بتلك المناطق .
“عتب البيوت” هو العرض المسرحى الذى افتتح احتفالية “اليوبيل الفضى للمسرح المستقل”، وقدّمته فرقة “جماعة المسرح البديل” الموسيقى لراجح داود، وإعداد موسيقى أيمن مسعود، وفيديو كايزر موسى وعماد مبروك، وإضاءة وصوت ريمون قدرى، وكتابة وإخراج محمود أبو دومة، واعتمد العرض بالكامل على حكى خمسة ممثلين يتبادلون الأدوار بين متابعين للحدث من الخارج أو شخصيات معاصرة للأحداث أو حتى شهود على وقائع بعينها فى الحكايات .
لم تكن هذه المرة الأولى التى تُقدَّم فيها هذه المسرحية، ويقدم محمود أبو دومة مجموعة من حكاياته التى كان قد سرَدها من قبلُ فى كتاب يحمل نفس الاسم، واستغل المخرج خشبة مسرح الهناجر بوضع شاشة عرض سينمائى وسط المسرح لعرض لقطات حية من أماكن بالصعيد، واستخدم موتيفات مسرحية بسيطة، ومنها أبواب قديمة وشبابيك، وخمسة كراسى استخدمها ممثلو العرض فى الجلوس وسرد الحكايات الشعبية الصعيدية الخالصة .
ومع سرد هذه الحكايات تكتشف أن هذه الأبواب فى العرض تعبر عن مدى الحبس والقيود التى تطول الجميع فى هذا المجتمع المنغلق، وأيضًا الأمل فى الخروج من هذه الأبواب، والوصول للحرية .
تحكى الفرقة حكاية “دولت” الفتاة الصعيدية المنتمية لعائلة كبيرة، والتى تعشق عمر، وتحكم علاقتهما حكاية قديمة يحكى فيها أن خالتها هربت مع أحد أفراد عائلة عمر فقتلتها العائلة بالسم فى هدوء .
ويقدم الحكّائون فى العرض قصة دولت وعشقها لعمر بثلاثة روايات مختلفة تنتهى جميعها بموت دولت لكن بطرق مختلفة، فالأولى عندما تكتشف عمتها “وصال” الخطابات التى كان يرسلها لها عمر، فتموت دولت من الرعب، والثانية عندما تقوم هذه العمة التى لم تتزوج بغلق الطريق الذى كان يمر منه عمر لتراه دولت، فيضطران للتقابل فى البيت خلسة، وعندما تكتشف وصال ذلك تقتلها وتتكتم سيدات المنزل على هذه الواقعة، ويخفين الحكاية بالكامل، وثالث حكاية أن دولت عشقت عمر من طرف واحد ولم يكن يعلم هو عن هذا الحب شيئًا .
هذه الحكاية المروية بثلاث وجهات نظر لثلاثة رواة لم تكن الوحيدة بالعرض، بل قدّمت حكاية أخرى تدور حول جدران الصعيد والحكايات التى تنقش عليها وأهميتها لدى هذه الثقافة، وتحكى عن رجل جاء ضيفًا على رجل كريم وورع فيستضيفه دون سؤال ويكرمه دون ملل، حتى تمر سنوات عشر ثم يخبر الضيف صاحب البيت بألا يبيع محصول القمح الخاص به، وبالفعل يزيد سعره وتزداد ثروته، ثم ينصحه نصيحة أخرى فينفذها، ثم ثالثة، ورابعة، وفى النهاية يختفى دون أن نعلم سبب دخوله هذا البيت ومكوثه فيه كل هذه السنين، لكنه ترك ورائه خيرًا كثيرًا لمضيفه الكريم .
وقدّم العرض حكايات تخوض فى عالم الصعيد بتفاصيله، وحكاياته، وعاداته، وتقاليده، وحتى ظلمه للمرأة واعتباره أن شرفها الغالى يدنَّس بمجرد نظرتها لرجل غريب، كما أوصل فكرته بسلاسة لجمهور فى الغالب لم يكن منهم صعايدة كثر، لكنه أخرجهم وهم مشبَّعون بموسيقى وقصص وخيال أهل هذه الأجواء المصرية العريقة .
كما جاء أداء الممثلين لأدوارهم بإتقان، حافظين لحكاياتهم ومتماهين معها، فرغم طول العديد من الجمل، وصعوبة البعض الآخر فإنهم قدّموا حكاياتهم بتناغم واضح .