
ينتظر
الشعب المصرى من حكومة ما بعد ثورة 30 يونيو أكثر من مجرد كونها حكومة
انتقالية، فقد شهدت مصر خلال عام من حكم الرئيس المعزول محمد مرسى تضخما
لمختلف الأزمات الاقتصادية المتمثلة فى نقص وقود سيارات الركوب وانقطاع
التيار الكهربائى والارتفاع غير المسبوق فى أرصدة الديون الخارجية، فضلا عن
تراجع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة لأدنى مستوى لها منذ سنوات.
ويترقب
الجميع من حكومة الدكتور حازم الببلاوى أكثر من تهيئة البلاد لانتخابات
رئاسية وبرلمانية، فى ظل خروج الشعب من أزمات متكررة أثارت احتجاجه، لا
يحتمل معها مزيدا من الأزمات.
الدكتور عبدالمطلب عبدالحميد، عميد
مركز الاستشارات والبحوث والتطوير، رئيس قسم الاقتصاد بأكاديمية السادات،
قال إن الحكومة المُشكلة حديثاً أمامها فرصة أن تكسب شعبية كبيرة، مستغلة
مناخ التفاؤل الذى عمَّ جموع الشعب بعد تظاهرات 30 يونيو التى أطاحت
بالرئيس السابق محمد مرسى المنتمى لجماعة الإخوان المسلمين .
وأضاف
عبدالمطلب فى حوار مع «المال » أن المجموعة الاقتصادية التى وقع عليها
الاختيار جيدة، ولكن المحك الأساسى هو ماذا ستفعل هذه الحكومة، وما ستتخذه
من قرارات، وكيفية تعاملها مع الأزمات والمشكلات الموجودة والمتعلقة
بالاقتصاد المصرى، دون إثارة أزمات تثير سخط الشعب عليها، مشيراً إلى أن
مناخ التفاؤل بعد الإطاحة بالرئيس مرسى سيساعدها على النجاح، وأن ذلك يتوقف
على إدارتها الحكيمة للملف الاقتصادى .
لكن عبدالحميد يرى ضرورة أن
تفصل الحكومة بين الملفين السياسى والاقتصادى، حتى لا تنجرف تلك الحكومة
إلى تكرار مساوئ الحكومات السابقة التى تم تشكيلها بعد ثورة 25 يناير 2011
حيث ركزت جميعها على علاج الاضطرابات السياسية منذ ذلك الحين على حساب
قضايا الإصلاح الاقتصادى .
وأشار عبدالحميد فى حواره مع «المال »
الى أن أولى الخطوات التى من الممكن أن تتخذها الحكومة هى توفير إعانة
للعاطلين عن العمل «إعانة بطالة » لتتحقق من خلالها العدالة الاجتماعية بين
أفراد الشعب، مشيرا إلى أن تصريحات وزير المالية الدكتور أحمد جلال بخصوص
أن الحكومة ستتبع سياسة توسعية وليست تقشفية فى الإنفاق، هى تصريحات مطمئنة
تشير إلى عزم الحكومة الحالية زيادة الاستثمارات الحكومية بما يستوعب
جانبا من البطالة التى بلغت نسبتها نحو %13.
وأوضح أن كثيرا من
المشروعات الاستثمارية الحكومية لم تكتمل بسبب أزمات تمويلية، مطالباً
بتفعيل الاستثمارات المتوقفة، بالإضافة إلى العمل على تنفيذ استثمارات تأتى
بعائد على مدى زمنى قريب .
وأكد عبدالحميد ضرورة فصل الحكومة
الجديدة الملف السياسى وما يحدث به عن الملف الاقتصادى، قائلاً : «لا يجب
أن تعلق الحكومةعدم قدرتها على التعامل مع الملف الاقتصادى على اضطراب
الأوضاع السياسية » ، مشيراُ إلى أن ذلك كان أهم أسباب سقوط الحكومة
السابقة، وأنها كانت تعلّق فشلها على الاضطرابات السياسية حسب قوله .
وأوضح
أن انشغال بقعة أو اثنتين مثل ميدانى التحرير ورابعة بالتظاهرات غير منطقى
أن يؤثر على الوضع الاقتصادى ككل، وأن الحكومة يجب أن تتخلص من وهم تأثر
الاقتصاد بالتظاهرات والاعتصامات، خاصة فى وجود عدد من المجالات الاقتصادية
التى لا تتأثر بشكل مباشر بالتظاهرات ويمكن تنميتها .
وتحدث
عبدالحميد عن أحد أهم الأزمات التى ستواجه الحكومة الجديدة فى الملف
الاقتصادى وهى عجز الموازنة الذى وصل إلى %13 من الناتج المحلى الإجمالى
متجاوزا 200 مليار جنيه .
وقال إن السياسة التوسعية التى أعلنت
الحكومة تبنيها ستساعد فى تقليص عجز الموازنة شريطة توجيه الإنفاق الحكومى
نحو مشروعات لها عائد وليس مجلس إنفاق جار كما كان يحدث على مدار العامين
الماضيين، ولفت إلى أن التوسع فى الإنفاق الحكومى الاستثمارى قد يزيد من
فجوة عجز الموازنة خلال السنة المالية الحالية، لكنه سيعود بالإيجاب على
أداء العجز فى العام المالى المقبل .
كما أشار عبدالحميد إلى ضرورة
اتباع الحكومة الحالية سياسة مرنة فى تحصيل المتأخرات الضريبية لها، وتنفيذ
ما يسمى بالحوافز الضريبية لتحصيل أكبر قدر ممكن من الضرائب فى الوقت
الحالى مما يقلل العجز .
ولفت إلى أنه يمكن ترشيد الإنفاق العام
بإعادة هيكلة منظومة الدعم ومنع إهدار الموارد، منها الطاقة التى كانت تهدر
كميات كبيرة من خلال تهريبها، وعلى الحكومة الحالية أن تبدأ تطبيق نظام
كوبونات توزيع البنزين لمنع التهريب وترشيد الانفاق .
وحول أزمة نقص
الطاقة اللازمة للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، والتى تسببت فى خسارة
العديد من مصانع تلك الصناعات فى الآونة الأخيرة، قال عبدالحميد إنه يجب
التفاوض والحوار مع القائمين على هذه الصناعات، وأن يتخذ الاتفاق منحى
وطنيا بحيث يتم تحميل تكلفة الطاقة على المستثمرين بشكل نسبى وبموجب اتفاق
يتخلى به أصحاب الصناعات عن جزء من هامش الربح الذى يحصلون عليه، والذى
وصفه عبد الحميد بالـ «ضخم » مع ثبات الأسعار .
وحول المساعدات
المالية العربية التى أعلنت عدة دول منحها لمصر عقب تظاهرات 30 يونيو،
والتى بلغت 12 مليار دولار من السعودية والكويت والإمارات، قال عبدالحميد
إن ما تم تحويله من مساعدات مالية من تلك الدول فى صورة ودائع لدى البنك
المركزى ومنح، سيوفر العملة الصعبة اللازمة لتجاوز الأزمات المعتادة الخاصة
بصعوبة توفير العملة لاستيراد السلع الأساسية والمشتقات البترولية، لاسيما
أن دولا كالسعودية والكويت تعهدتا بتوفير احتياجات السوق من المنتجات
البترولية .
لكن عبدالحميد طالب بضرورة عدم ارتكان الحكومة على تلك
المساعدات دون بذل الجهد اللازم لتوفير مصادر بديلة للتمويل ليست فى صورة
منح وودائع حتى لا تسقط تلك الحكومة فى نفس خطأ حكومة الدكتور هشام قنديل
فى نظام الرئيس المعزول والتى كانت تعتمد على المساعدات القادمة من قطر
وتركيا بشكل أساسى لتجاوز أزمات نقص العملة، مضيفا أن ما تم الإعلان عنه من
مساعدات مالية عربية قد يغرى الحكومة الحالية بعدم فعل أى شىء على مستوى
الإصلاح الاقتصادى اللازم .
وكانت كل من السعودية والإمارات والكويت
قد أعلنت تقديمها مجموعة مساعدات للاقتصاد المصرى ليتجاوز الصعوبات التى
يواجهها حاليا، إذ أعلنت السعودية عن مساعدات بقيمة 5 مليارات دولار، منها
مليار دولار مساعدات بترولية، إلى جانب إعلان الإمارات عن مساعدات بأربعة
مليارات دولار منها مليار دولار مساعدات بترولية تسلمتها مصر بالفعل .
كما
أعلنت الكويت عن عزمها تقديم مساعدات قدرها 4 مليارات دولار، ومنذ الإعلان
عن ذلك قامت كل من السعودية والإمارات بتحويل 5 مليارات دولار إلى البنك
المركزى لتقفز احتياطات النقد الاجنبى إلى نحو 18.8 مليار دولار .
وكان
وزير المالية الدكتور أحمد أمين قد قال فى تصريحات سابقة إن جانبا من
المساعدات المعلنة بواقع 3 مليارات دولار سيتم ضخها فى الموازنة العامة
للدولة بجانب احتياطات النقد الأجنبى .
وحول قرض صندوق النقد
الدولى، قال عبدالمطلب إن الحكومة الجديدة عليها أن تصرف النظر عن التفاوض
مع الصندوق للحصول على القرض فى هذه المرحلة، مشيراً إلى أن القرض يتطلب
فرض شروط معينة من خلال وضع برنامج إصلاح اقتصادى يشمل ترشيد الإنفاق
الحكومى من خلال إلغاء تدريجى لدعم السلع والخدمات الحكومية .
وأضاف
أن مصر لن تتحمل مراقبة أدائها الاقتصادى فى الوقت الحالى، لتنفيذ سياسات
تقشفية قد تساهم فى إثارة غضب الشعب، وتكون فاتورة قاسية يدفعها محدودو
الدخل والطبقات المهمشة، كما أنها تتطلب استقرارا سياسيا وأمنيا غير متوافر
حالياً .
وأشار إلى أن صندوق النقد الدولى لن يستطيع إقراض مصر إلا
حال وجود توافق مجتمعى على حكومة منتخبة يقوم بتحميلها المسئولية،
بالإضافة إلى عدم تعامله مع حكومات مؤقتة .
وقال عبدالمطلب إن
الصندوق كان سيعطى مصر القرض على عدة دفعات وشرائح لن تكفى لإسعاف الوضع
المالى الراهن بشكل سريع، مما يعيق الاقتصاد أكثر من إفادته، مشيراً إلى أن
المفاوضات مع الصندوق واجهت انتقادات كثيرة فى الشارع المصرى، وعلى
الحكومة أن تتعلم من أخطاء من سبقوها .
ولفت عبدالمطلب الى أن سياسة
الاقتراض تعتبر هى «الخطيئة الكبرى » لنظام الرئيس المعزول حسب تعبيره،
وأن مصر لديها الموارد التى تكفيها لتسيير المرحلة وسداد التزاماتها، وأن
المساعدات البالغة 12 مليار دولار تكفى للخروج من الأزمة الراهنة .
وأضاف
أن مصر لا تواجه مشكلة فى سداد الديون لكى تدفعها للاقتراض، بل لابد أن
تتجه لجذب العديد من الاستثمارات الأجنبية خلال هذه المرحلة لتحسين مناخ
الاستثمار، وذلك سيحدث عندما يتم الإسراع فى حسم ملف الأمن والاستقرار
السياسى، لكى يطمئن المستثمرون الراغبون فى الاستثمار فى مصر .
وطالب
الحكومة الجديدة، وتحديداً المسئولين عن الملف الاقتصادى، بإعلان قرار
رسمى بوقف الاقتراض بشكل قاطع، مشيراً إلى أنه بالرغم من انتظام مصر فى
سداد المديونيات التى لديها، فإن بها موارد يمكن استغلالها كطريقة أفضل من
الديون الخارجية، خاصة أن القروض التى حصلت عليها حكومة هشام قنديل «لا
نعرف أين تم صرفها حتى الآن »!
وفى إطار الديون الداخلية التى أشار
وزير المالية الحالى إلى زيادتها بشكل مبالغ فيه، قال الدكتور عبدالمطلب
عبدالحميد إن على الحكومة إعادة جدولتها، ومدّها لأجل طويل، واقترح امكانية
استغلال مصادر أخرى لإنعاش الاقتصاد، منها نظام المشاركة مع القطاع الخاص .
ولفت
إلى إمكانية استغلال تفعيل نظام «الصكوك » كأداة دين إضافية وليست بديلا
لمساعدة الاقتصاد على التعافى، على أن يتم طرحها بمشروعات جديدة ذات جدوى،
مما يساعد على تحسين أوضاع الدين الداخلى، موضحاً أن الصكوك ستكون بمثابة
تعبئة مدخرات محلية بشكل أفضل، وأنها يجب أن تدار بحكمة ودون تحيز .
وأشار
إلى أن الصكوك اكتسبت سمعة سيئة فى الفترة الماضية، بسبب ما أثير من
إشاعات بأن الصكوك ستعطى فرصة للإخوان المسلمين لبيع مصر، بالرغم من نجاحها
فى دول كثيرة منها ماليزيا .
وعن ديون الهيئات الاقتصادية الضخمة
مثل هيئة السكك الحديدية، قال إنها من الممكن أن تتخلص من مديونيتها عن
طريق بيع أصولها غير المستغلة أو استغلالها حتى تحقق عائدا منها يغطى
ديونها كتحريك لرأس المال المتجمد .
كما انتقد عبدالحميد موقف
الدكتور محمد البرادعى، نائب رئيس الجمهورية للعلاقات الخارجية، مؤكدا
ضرورة أن يقوم بدور فعال فى تحسين الصورة الخارجية لمصر وطمأنتهم على الوضع
الحالى لمصر، وتوضيح صورة تظاهرات 30 يونيو بأنها ثورة شعبية وليست
انقلابا عسكريا، منتقداً تصريحاته التى تدين استخدام العنف ضد المتظاهرين
المؤيدين للرئيس المعزول محمد مرسى، قائلاً إن تصريحاته لا تظهر أنه محسوب
على هذه الحكومة .
وأشار إلى أن الحكومة يجب عليها الإعلان عن خريطة
استثمارية واضحة المعالم ويتم تسويقها للعالم، والتأكيد على أن
الاستثمارات لن تتأثر بالتظاهرات، وأن مصر ليست ميدان التحرير أو رابعة
العدوية حسب قوله .
وحول القوانين الخاصة بالاستثمار أكد أنها تتطلب
المزيد من التعديلات كى تناسب المستثمرين، ومنها تعديلات تزيل العوائق
التى تمنع تدفق الاستثمارات ومحاولة التوصل لحلول لها .
وأكد
عبدالمطلب أن المرحلة المقبلة يجب ألا تشهد إقصاء مستثمرين على حساب آخرين،
أو اتباع أى أساليب تنم عن العنصرية أو التحيز لفئة بعينها دون الأخرى،
كما فعل نظام الإخوان المسلمين، على حد قوله، مشددأ على أن الاستثمار يجب
أن يكون على مسافة واحدة من كل المستثمرين أو الوطنيين .
وأشار إلى
أن الحكومة الجديدة بدأت بالفعل اتخاذ خطوات بهذا الملف، وعقدت اجتماعا مع
المستثمرين العرب لمناقشة المشاكل التى تعترض طريقهم فى مصر، وأن الجميع
ينتظر الإعلان عن سياسة الحكومة فيما يتعلق بالاستثمار .
وعن شركات
قطاع الأعمال وما تحيط بها من أزمات متعلقة بخصخصة بعضها وبالخسارات
الفادحة التى تشهدها أخرى، اقترح عبدالحميد إعادة هيكلة الشركات كحل أولى
من خصخصتها، مشيراً إلى أن الكثير من تلك الشركات مازالت صالحة للتشغيل مرة
أخرى، ولكنها تحتاج إلى أن تتحسن كفاءتها، وتتحول من شركات خاسرة إلى
شركات رابحة، وتزداد قيمتها، خاصة فى الشركات كثيفة العمالة مثل شركات
الغزل والنسيج، مشيراً إلى أن هناك عددا من شركات قطاع الأعمال العام تختص
بصناعات مهمة مثل صناعة الأسمنت، وأن نشاط شركات قطاع الأعمال العام يساعد
فى منع الاحتكار .
ورأى أن سياسة الخصخصة سياسة فاسدة لأنها تميل
إلى بيع الشركة دون تفكير فى إعادة هيكلتها، وأن من الأولى إعادة الهيكلة،
حتى تزداد قيمة الشركة سواء تم بيعها بعد ذلك أو لا، فسيعود بالنفع على
الدولة فى الحالتين .
واقترح عبد الحميد أن تقوم شركات قطاع الاعمال
العام ببيع الأصول غير المستغلة لها لمساعدتها فى إعادة هيكلتها، لتجنب
بيعها إلى مستثمرين أجانب .
وبالنسبة إلى تراجع مصر فى التصنيفات
الائتمانية الدولية، قال عبدالحميد إن التصنيف الائتمانى مرتبط بالاستقرار
الأمنى والسياسى أكثر من ارتباطه بالأداء الفعلى للاقتصاد، وأن التظاهرات
المستمرة والاضطرابات الأمنية تنقل للدول الخارجية صورة بضعف القدرة على
سداد القروض مستقبلاً، مما يتسبب فى تراجع تصنيفها الائتمانى .