توقفتُ كثيرًا عند التفسيرات والتبريرات لنسخة تمثال شامبليون 1875 بالسوربون، يدعس رأس الملك رمسيس الثاني؟ سواء التفسير الفرنسى أم البارتولديون (المقتنعون بحرية الإبداع فى تعبير الفن عن فكر الفنان ولو كان إساءة، أو أن التمثال يُوثّق معنى قهر شامبليون للهيروغليفية ليس إلا، أو أن مفهوم الحذاء فى الثقافة الفرنسية يختلف عن المصرية، أو أن النحّات آوجست بارتولدى استوحى التصميم من أسطورة أوديب الملك وأبو الهول، أو أن التمثال إرث تاريخى فنى لا يُمسّ، أو أن المصريين أسرى للحِقب الاستعمارية القديمة)! ولاحظت أن مقاومة معظم هذه التفسيرات لإحساس مصر والمصريين بالإهانة الشامبليونية تتجه دومًا للمصريين لدرجة نَعْتهم بالعنصرية! وعدم فهم الرسالة الفنية للتمثال، أو المساس بعظمة شامبليون ودوره فى ترجمة تراث الهيروغليفية من ظلام صمت اللغة لنور معرفة وتقدير العالم، وهو ما أورث فرنسا مجدًا أثيلًا لا يبلى!
وفى درب بحثى – الفنى والتاريخى والقانونى والمستندى – لتأصيل قضية مصر ضد نسخة التمثال هذه، تعلمتُ أن احترام الآخر فى رأيه وثقافته يجب أن يُتوِّج أى مناقشة أو مطالبة أو جدال، هذا الاحترام فتح لى منظورًا وزاوية جديدة لرؤية التمثال فى علاقته بمصر والمصريين، فمعلوم أن أى مطالبة بمحاكمة هذه النسخة أو طلب إزالتها، يلزمه دراسات أو تقارير سابقة تتناول أثر التمثال المسيء على الثقافة والتراث والمجتمع، وكذلك شهادات أو توثيقًا من خبراء فى التراث الثقافى والفني، لدعم حجج الأثر السلبى للتمثال، كذلك أى قوانين وطنية أو اتفاقيات دولية تدعم حق المطالب بإزالة التمثال المسيء.
ومن هنا سعيت لبناء توثيق من خبراء ونقاد أثريين وجامعيين ومُتحفيين، لنقد موضوعيّ متخصص لنسخة تمثال شامبليون 1875، وأثره السلبى على الحضارة المصرية القديمة ومصر الحديثة والمصريين. وفى طريقى لذلك، طرقتُ أبواب متخصصين فى روما ولندن وواشنطن وباريس، للحصول على تقارير وشهادات فنية حول عدة محاور ومعان تساعد الناقد الفنى أو الخبير فى بلورة رأيه المقدَّم (استعنت فى ذلك بخبرتى كمحامٍ يُنفّذ حكمًا تمهيديًّا لمحكمة بإحالة القضية إلى خبير فنى لاكتشاف الحق)!
قمت بصياغة المحاور المطلوب الكشف عنها ودراستها من الخبير الفنى فى هذه العواصم، كمصرى فى معرِض مطالبته بإثبات أثر سلبية التمثال على مصر والمصريين، ولكن توافقت الردود المبدئية على وجهة النظر التالية (هذه مسألة مصرية بحتة، ولو كانت ذات بُعد فني! فماذا يهم ناقدًا أمريكيًّا بثقافته وخلفيته الأمريكية أن يَعيب أو ينتقد دعس حذاء تمثال فرنسى لرأس فرعونى لإثبات الإساءة لمصر أو المصريين؟) – نظريًّا وواقعيًّا، لا يوجد رابط! فلا مصلحة أو صفة لهؤلاء النقاد الأجانب فى تغطية هذه المحاور، لتستخدمها مصر فى شكواها/ قضيتها ضد التمثال المسيء لإزالته!
ولكن دعُونا نتفق على أن حرب الإبادة الجماعية فى غزة فتحت آفاقًا جديدة لعالمية التضامن مع صور الأذى والوجع والضرر الإنسانى على مستوى العالم، لدرجة انفجار الغضب والتضامن الشعبى والمؤسسى بمختلف الدول، ليتبلور فى قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، من زاوية (انتهاك حقوق الإنسان بهدف إبادته)! ومن هنا كان الوصول لعالمية الانتشار والإحساس بالمشاركة لا يتم إلا بشدة المحلية من الزاوية الإنسانية! فماذا لو أعدتُ – فى إطار الاتفاقيات الدولية – عرض قضيتى وقضية مصر كقضية إنسانية عالمية، فى رمزية دعس حذاء إنسان لرأس أخيه الإنسان؟
وُجد الإنسان وبُنيت حوله المواثيق الدولية لحماية وجوده وكرامته وحريته وتراثه، كاتفاقية حماية التراث الثقافى العالمي، اتفاقية اليونسكو للتنوع الثقافي، الاتفاقية الدولية للحماية من التمييز العنصري، الاتفاقية الدولية للأمم المتحدة حول الحقوق المدنية والسياسية، الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، قوانين الدفاع عن الشرف والكرامة (خاصة فرنسا)، الاتفاقية الدولية لحماية حقوق المؤلفين، قانون الإساءة والتشهير الفرنسى 1881، اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية، قانون الإساءة والتشهير الإنجليزى 2013، قانون مكافحة التمييز الفرنسى 2001، قانون النقد على الإساءة للجماعات الدينية والعِرقية 1972، وغيرها من مواثيق دولية.
من هنا ظهر أنه ما دامت للعالم كما نعرفه مواثيق دولية تُعتبر مرجعيات للقوانين الوطنية فى عدم التمييز، حرية الإنسان واعتباره الذاتي، احترام الآخر وثقافات وتقاليد الشعوب، فمن الموقن إمكانية عرض إساءة تمثال شامبليون لدعسه (رمز الإنسان)، الذى كان صاحب حضارة ومُلك وفتوحات وإعمار، إنسان عظيم قد تكون رأس أى من عظماء هذه الدول بدلًا منه، أو دعوة لتكراره ما دام لا غضاضة فيه (مثل وضع حذاء كريستوفر كولومبس الإيطالى على رأس جورج واشنطن مثلًا)؟!
وهذا ما قمت به فعلًا بدعوة مَن حاورتُ من خبراء، لرؤية رأس رمسيس الثانى تحت حذاء شامبليون، كرأس (إنسان) قد يكون محلها أحد عظمائهم أو جدودهم؟ النتيجة اختلاف رد الفعل تدريجيًّا، ونجح نموذج غزة فى ترقية النظر الأجنبى لنسخة تمثال شامبليون 1875 لجعلها إساءة وإهانة للإنسان نفسه، وخاصة لو كان عظيمًا، أو رمزًا لحضارة أو ثقافة بلد أو مجدها. وبدأ التفاعل التدريجى مع أحد الخبراء بمعهد سيمثونيان الأمريكى العريق ليعرف المزيد عن الموضوع قبل الكتابة عنه، وآخَر من كلية الفنون جامعة هارفارد يحتاج لمعرفة الخلفية والظروف التاريخية لنحت التمثال، وآخر من لندن بدأ يتراجع عن عدم اهتمامه ليرغب فى معرفة المزيد! وأصبح فيديو ممثلى مسلسل (لعبة العروش) وهم يقرأون لائحة اتهام جنوب أفريقيا بمحكمة العدل الدولية، مصدرًا جديدًا لإلهام نجوم وفنانى مصر والعرب فى التعبير عن إساءة تمثال شامبليون 1875 للإنسان المصري، والعربي، فى كل بلد!
كما ذكرتُ، إذا كان 2023 عام التبصير بأزمة تمثال شامبليون، فـ2024 عام التنوير بقضيته العادلة لإزالته من وجه الكرامة المصرية، بمنتهى الاحترام والتفعيل للمواثيق الدولية والقوانين الفرنسية، فالاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، وما مات حق وراءه مُطالب!
* محامى وكاتب مصرى