كثيراً ما يطرح أساتذة الفلسفة هذا السؤال: أيهما يسبق الآخر الفكر أم الواقع؟ وعادة ما تتوقف الإجابة على التكوين الشخصى للمتلقي، فلو كنت ميالاً لاستخدام العقل فى التفكير، ستكون إجابتك هى: الواقع يسبق الفكر، بمعنى أن طبيعة الأفكار ومدى تقدمها أو تخلفها، يتعلق بالواقع الذى تنشأ فيه، فالجهل والفقر والمرض على سبيل المثال، لابد أن تنتج فكراً فقيراً مريضاً شديد الجاهلية، والعكس صحيح.
أما إذا ما كنت لا تحبذ استخدام العقل فى التفكير، فغالباً ما سيقع اختيارك على الإجابة الأخري، الفكر يسبق الواقع أى أنه هو الذى يشكله، وهكذا يمكنك أن ترسم صورة ذهنية فى مخيلتك، متوهماً أنه يمكن اسقاطها هكذا وببساطة على الواقع المرير!
وقد شاءت الأقدار أن يحظى العالم الذى نعيش فيه الآن، بنعمة ثورة المعلومات والاتصالات، وهى ما قد نجم عنها- للأسف- خاصية بالغة الأهمية، تتمثل فى قدرة الشخص الواحد على أن يعيش فى عالمين مختلفين- بل وعوالم مختلفة- أولهما عالمه أو واقعه الخاص به، الذى ينتج فكراً خاصا ملتصقا به، والثانى هو عالم آخر لا يمت لواقعه بصلة، ولكنه- ورغما عن أنفه-، يجد نفسه مرغماً،- أو غير مرغم- على التعاطى مع الفكر الذى ينتجه هذا الواقع المختلف.
وهكذا نجد على سبيل المثال، العشرات من المثقفين العرب، يتجادلون ويتشاجرون على صفحات الجرائد وطاولات المقاهى والبارات حول قضايا ما بعد الحداثة، مع أن واقعهم الذى يحيون فيه، لا يؤهلهم حتى لمناقشة إشكاليات الحداثة، ناهيك عن القفز إلى ما بعدها.
ونستطيع أن نضرب عشرات الأمثلة الأخرى الناجمة عن هذه الخاصية السابقة من حقوق الانسان إلى حقوق المرأة إلى الديمقراطية إلى حرية الصحافة وغيرها من الأمور ذات الارتباط، بالواقع الذى ينتج الفكر، وليس الفكر الذى ينتج الواقع.
ومؤخراً بدأت هذه الخاصية تجد متنفساً لها فى منحى جديد، هو المنحى الاقتصادي، فتطاحن المتطاحنون وتبارى المتنافسون على الخوض فى سجالات ومعارك لها بريق، ربما لا تقوى النفس على مقاومة الانجذاب إليه- تماما كما هو حال الحديث عن اشكاليات ما بعد الحداثة- فتارة يتجادل البعض عن ضرورة إعمال آليات السوق، ومرة عن تحرير سعر الصرف، ومرة ثالثة عن استهداف التضخم كمثبت للسياسة النقدية بعد التخلى عن الدولار.
وكأن لدينا سوقاً حتى نعمل آلياته، وبنية مؤسسية وتشريعية وثقافية، تمكنا من تحرير سعر الصرف، وبنية مؤسسية ومعلوماتية تجعلنا نطمئن إلى تحقيق السياسة النقدية لأهدافها.
هكذا عاش البعض ونحن معهم فى واقع محدد، ولكن بفكر نتج ونجح وتطور فى واقع مختلف، فأتت النتائج سرمدية متماثلة مع نهايات- أو بعبارة أدق لا نهايات- معارك ما بعد الحداثة.
يقوم محافظ بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى بخفض سعر الخصم %0.5 فتقفز أسعار الأسهم فى البورصة فى حين يقوم محافظ البنك المركزى السابق لدينا بنفس الإجراء قبل نحو عامين، فلا تحرك الأسهم ساكناً.
تحرر الدول والحكومات سوق الصرف وتتدخل البنوك المركزية للحفاظ على استقرار عملتها بيعا وشراء، بينما تحرر الحكومة لدينا سوق الصرف فيهوى الجنيه، ويعجز البنك المركزى عن التدخل بالبيع لحمايته، لأن محافظه يعلم- وغالبا هو على حق- أنه لو فعل هذا، لتحولت احتياطياته، إلى أرصدة وودائع فى الخارج والداخل، دون أن يجديه ذلك أو يجدى الجنيه نفعاً.
الإصلاح فى نهاية الأمر هو عملية بناء، ينبغى أن تبدأ من أسفل إلى أعلى وليس العكس، وبدون الاتفاق على ذلك، والعمل على تغيير الواقع، كى يسمح بإنتاج وتطبيق فكر أكثر تطوراً، سيظل هذا الانفصال الحالى قائماً بين واقعنا الاقتصادى والثقافى والمعلوماتى والمعرفي والمؤسساتى والتشريعى من جهة وبين الحوار الذى تتعاطاه النخبة فيما بينها من جهة أخرى.
وستظل الحوارات الاقتصادية والمالية والنقدية- ما بعد حداثية- عاجزة عن حل إشكالية الواقع الذى نخشى، أنها لم تعد تمتلك رفاهية الانتظار.
حازم شريف
7:09 ص, الأحد, 28 سبتمبر 03
حازم شريف
7:09 ص, الأحد, 28 سبتمبر 03
End of current post