بداية، أعلم الجدل الذى سيثيره مفهوم أو فهم العنوان! فما علاقة الصناعة، بالعدالة، بتكنولوجيا المعلومات؟
وهل فى قوله تعالى (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) ـ النساء -58 ما قصد به الفصل بين آليات عملية الحُكم (القضاء) المادي، وبين تحرى هذا القضاء للحكم بالعدل، كأمر إلهى ومحور اخلاقي؟
وبالتالى، اذا اتفقنا على إمكانية رقمنة إجراءات التقاضي، فهل معناه أننا سنشهد يوما عدلا رقميا؟
بداية، تُعرف صناعة الخدمات، بأنها أحد مجالات الصناعة المُشكلة للاقتصاد، لإنتاج خدمات بدلا من سلع ملموسة، بما فى ذلك الخدمات الحكومية المتضمنة القضاء.
فإذا قلنا تحديدا خدمة العدالة القضائية، لقصدنا توفر مُحاكمة عادلة متوازنة، انطلقت دائما من قصور للعدالة والمحاكم، ضمن منظومة قانونية من اجراءات وضمانات تقاضى محددة، من أهمها ضمانات علانية الجلسات، وإتصال علم الخصوم بالدعوى ومواجهتهم لبعضهم بكافة الاجراءات، بصورة تكفل للجميع الشفافية والمحاكمة العادلة.
وهو ما جعل صناعة خدمة القضاء تأتى على مرحلتين، الاولى آليات التقاضى الشكلية (خدمات مبنى المحكمة، سلسلة اجراءات التقاضى وتجهيز الدعوي، حضور الخصوم، علانية الجلسات، المرافعة)، والثانية آليات التقاضى الموضوعية (نظر القضاة للدعوي، تحقيق الدفاع، البحث القانوني، المداولة، إصدار الحكم بإسم الشعب).
لذا ولكون القاضى إنسانا، فقد كلفه المولى أن يحكم بالعدل، كقانون الهى وقيمة أخلاقية غير مادية، تتدبر تطبيق القانون وروح القانون واعتبارات العدالة والإنصاف، ولا تطبق فقط قوانين المحاكم البشرية، التى تخدم مصالح الأقوى ومن يضعها.
هذا عن صناعة خدمة القضاء، ولكن عندما أطلقت شركة BWC فى 2016 مصطلح الثورة الصناعية الرابعة، أو المصنع الرقمي، انطلقت للجمع بين التحول الرقمى الشامل لكافة الأصول المادية فى المنتجات والخدمات وتكاملها فى المنظومة الرقمية، مع الشركاء فى سلسلة القيمة، لتشمل التكامل مع سلاسل القيمة العمودية (سلاسل العمل والإجراءات داخل إجراءات التقاضى بالمحكمة مثلا بالكامل) وتكامل الرقمنة أفقيا (الممتدة لما بعد العمليات الداخلية بالمحكمة، لتصل لعمل القضاة والمحامين والخصوم والشهود والخبراء، وكافة شركاء سلسلة القيمة القضائية).
ولكى نتصور عمق إطار وتأثير الثورة الصناعية الرابعة فى التحول الرقمى للخدمات (شاملة صناعة خدمة القضاء)، نجد أن التقنيات الرقمية المساهمة لتحقيقها تشمل، الموبايل/إنترنت الاشياء/التفاعل المتقدم بين الإنسان والآلة/التوثيق وكشف عمليات الاحتيال/الطباعة ثلاثية الأبعاد/الذكاء الإصطناعي/ تحليل البيانات الكبيرة/التفاعل متعدد المستويات مع العملاء وجمع معلومات حولهم.
ومن هنا يمكن استيعاب دور التقنية فى دعم صناعة خدمة القضاء وليس تحقيق العدالة!
فمصطلح «القضاء الرقمي»، صحيح وقابل للتطبيق والتطوير، كداعم فى مرحلة حكم القاضى البشرى بالعدل، ولكن مصطلح «العدالة الرقمية» سيجرح عدة ضمانات للتقاضي، تمس الشفافية والعلانية والوجاهية وحق الدفاع وتقديم الأدلة والطعن عليها، خصوصا فى القضاء الجنائى وحضور المتهمين.
وهذا يقودنا إلى فهم إمكانيات التحول من رقمنة آليات التقاضي، إلى مفهوم جديد للمحاكم الإلكترونية، كسلطة للقاضى بنظر الدعوى بوسائل الكترونية ضمن أنظمة قضائية مستحدثة تعتمد البرمجيات والرقمنة، بدل الورق، بما ييسر إجراءات قيد الدعوى والطلبات، ويختصر الوقت، ويسهل البحث القانونى، ويسمح بتقليص الموظفين والخطأ البشري، ويسمح بمداولة القضاة، وغيرها من مميزات التحول الرقمى فى دعم آليات التقاضى الشكلية والموضوعية.
غير أن مفهوم المحاكم الإلكترونية أو القضاء الرقمى عند تطبيقه حرفيا (بجلسات الفيديو كونفرانس والمداولات وتقديم المستندات الكترونيا وإصدار الحكم)، سيثير بعض التحديات الموضوعية الجادة، الماسة بضمانات التقاضى مثل إتصال علم الخصوم بالدعوي، علنية الجلسات، وصدور الحكم بإسم الشعب، وتقديم أصول المستندات الورقية بجلسة المحكمة، بما يسمح للخصم بطلب التحفظ عليها، للطعن عليها بالتزوير مثلا!؟ أو السماح باصطناع مستندات بتقنيات الفوتوشوب العالية! وطبقا للمفهوم، فستكون جلسات المحاكمة السيبرانية بدون جمهور أو علانية أو نشر، بما يخل بضمانة قانونية مباشرة، وهو ما يتطلب من المختصين تفسير حجية صدور الحكم باسم الشعب فى غيبته؟
قبول مفهوم رقمنة خدمات التقاضي، يختلف حتما عن مفهوم (أن تحكموا بالعدل) رقميا، وإلا وصلنا يوما ما للزعم بالقاضى الرقمي! فيحكم علينا جهاز أو برنامج، يفتقد الحكم بالعدل والإنصاف وروح القانون!
وبالتالى يصعب تصور تطبيق العدالة من برنامج ذكاء اصطناعي، مهتم بالقدرة على التعليم وإتخاذ القرارات «العادلة» المستندة إلى مسطرة النص القانونى فقط بدون انسانيات العدالة.
لا شك أن المصنع الرقمى سيتطور ويتعمق فى صناعة خدمة القضاء، ولكن من المهم مراقبة فهم ودرجة هذا التدخل من الأطراف المعنية حتى لا يمس مفهوم العدالة، التى تتمرد بطبيعتها المعنوية الأخلاقية على الرقمنة! وإلا جاز الزعم برقمنة ضمير القاضى أو سلطته الشخصية الانسانية، فى تقدير ظروف الدعوى والخصوم وعرض الصلح والحكم بروح القانون ومباديء العدالة والانصاف.
صناعة خدمة القضاء الرقمي، حتما تدعم القاضى الإنسان فى تحقيقه للعدالة، ولكن تحقيق وتكامل منظومة المحاكم الإلكترونية تحتم تضافر جهود، ليس فقط شركات التقنية والبرمجة والتحول الرقمي، ولكن بتوفر منهجية قانونية قضائية معها، لفرز أنواع القضايا القابلة للتقاضى الإلكترونى، وحل تحديات العلنية ومواجهة الخصوم وحفظ وتحريز المستندات وعلم الخصوم بالدعوي، بما قد يؤدى إلى تعديل فى قانون المرافعات أو إصدار قانون خاص بضمانات التقاضى الإلكتروني.
فعندما حكم المولى عز وجل نصا (واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، كان يقصد حُكما إلهيا بحصر العدل فى الانسان، لا الآلة أو البرمجيات، وهو ما يجعلنا دوما نتحرى الحدود الفاصلة فى دور رقمنة الشكل والمضمون، بما قد يسمح يوما ما بمواجهتنا (بعدل رقمى) ينهى ضمير ورحمة الإنسان.محامى وكاتب مصرى
[email protected]