صفحات من التاريخ «الفاروق» وسياساته العربية 1937 - 1952 (1)

11:07 ص, الخميس, 6 سبتمبر 18

جريدة المال

المال - خاص

11:07 ص, الخميس, 6 سبتمبر 18

كان من الطبيعى أن تؤدى الحرب فى فلسطين إلى أن يتفتح باكراً الوعى السياسى للجيل الذى لم يكن قد بلغ الحلم بعد، إلا على صداها، كواحدة من أربعة تطورات وطنية سياسية كبرى فى عهد «الفاروق 1937 – 1952»، ذلك حين أطل أبناء هذا الجيل على الدنيا عشية كل من حادث فبراير 1942 كشأن داخلى يتصل بعلاقة شرعية النظام الملكى مع سلطات الاحتلال البريطانى، ومن قبل عشرة شهور عن معركة «العلمين» أكتوبر 1942.. التى حولت- عن مصر- مسار الحرب العالمية الثانية- خاصة بالنسبة لانسحاب قوات المحور- على يد الحلفاء- من كل الأراضى المصرية و(العربية) فى الشمال الأفريقى، ذلك قبل ثلاثة أعوام من رابع التطورات المشهودة بشأن إنشاء جامعة الدول العربية 1945 التى لم تحل فكرتها القومية عن زرع إسرائيل على الحدود الشرقية لمصر.. وإعلان قيام دولتها فى العام 1948، ورغم عمق وتعقد التحديات المفصلية التى واجهت النظام المصرى طوال عقد الأربعينيات، وعلى النحو السابق بيانه، داخلياً ودولياً، وعلى الصعيدين السياسى والعسكرى، فإن الجهد الذى سعى إليه «الفاروق» للتصدى لها، كان مشهوداً، خاصة بالنسبة لدبلوماسيته الشخصية فيما يدفع للأمام مسيرة التضامن العربى، تحسباً لنظامه بكل تأكيد، كما تبنى هذا الاتجاه لاعتبارات شتى، ربما تطلعاً لمجد قد يعود إليه، لا يستثنى عنه حكام عرب، حيث عمل «الفاروق» على تنشيط بروتوكول الجامعة العربية «بروتوكول الإسكندرية»، وإلى تفعيل الزيارات المتبادلة مع ملك السعودية الذى كان يقف موقفاً فاتراً من الجامعة العربية (اجتماع القمة «رضوي»- ينبع) 1944، حيث صرح بعده «بن سعود» «الآن أصبحت الجامعة العربية حقيقة قائمة»، كما بذل الملك المصرى مساعيه لتخفيف حدة الغيرة الدبلوماسية القائمة لأسباب تاريخية بين آل سعود والأسرة الهاشمية فى العراق وفى شرق الأردن، كما إلى توضيحه حياد مصر تجاه مشروع «سوريا الكبري» أو تجاه مشروع «الهلال الخصيب»، كما كان حريصاً على توظيف دبلوماسيته الشخصية فى توطيد العلاقات المصرية مع حكام وأولياء العهد.. وكبار السياسيين والعسكريين العرب (العراق- الأردن- سوريا- لبنان «…»)، كما كان لمصر أن توجه باسم القصر الملكى مايو 1946 الدعوة إلى ملوك ورؤساء العرب- لثلاثة أيام- فى أنشاص، ما يمثل أول قمة عربية تدعو إليها مصر، وكان من اللافت استضافته كلاً من الحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين.. والأمير عبدالكريم الخطابى المجاهد المغربى، كلاجئين سياسيين فى مصر، مما تسبب فى ضيق شديد لكل من الإنجليز والأميركيين من ناحية وللفرنسيين من ناحية أخرى، كما كانت مائدته مكاناً لدعوة كل من السياسى والزعيم المارونى «كيل شمعون» الذى أصبح رئيساً للبنان فيما بعد، وأديب الشيشيكى رئيس الأركان السورى قبل أن يرأس سوريا بسنوات فيما بعد، كذلك مع «مزاحم الباجه جي» من عائلة سياسية معروفة حتى اليوم فى العراق، إلى السياسى المعارض آنئذ «عبدالله اليافى» رئيس وزراء لبنان فيما بعد، وليس انتهاءً بدعوة الأعضاء العرب فى مؤتمر وزراء المالية والاقتصاد فى الشرق الأوسط.. للاجتماع به، بل قد يكون من اللافت أيضاً أن يتدخل القصر الملكى فى السعى للتصالح بين سوريا (القوتلي) ولبنان (الخوري) 1947، إلا أن أهم ما أسفرت عنه الجهود المصرية فى الحقبة الملكية بالنسبة للوضع العربى.. كان فى خريف 1949.. حين كاشفت حكومة «الأقلية»- حسين سرى- وقتذاك.. سائر البلدان العربية بفكرة ميثاق الضمان الجماعى «اتفاقية الدفاع العربى المشترك»، وهى الفكرة التى ما لبثت أن أضحت حقيقة قائمة من 1950 – كميثاق يكفل للبلدان العربية ضماناً مشتركاً للدفاع التضامنى فيما بينهم.. إلى اليوم، برغم عجز عقلية حكام عرب حتى الآن عن تقدير الجدوى من وراء توقيع هذا الميثاق- الاتفاقية وقتئذ، ربما كان آخرها أن يوضع فى الأدراج منذ مارس 2015، ولأجل غير مسمى، المقترح المصرى الواعد بإنشاء قوة عربية عسكرية مشتركة.

الجامعة العربية.. رجلنا المريض (2)

ماذا عن موجات الاستخفاف المريب بمستقبل جامعة الدول العربية، وكأن المتشائمين بنعيهم الاستباقى لها يهيئون الأذهان لنظام بديل لـ«الشرق الأوسط» الذى صاغه وروج إليه شيمون بيريز رسمياً من على أحد المنابر العربية (الدار البيضاء 1995).

نعم، لقد أصاب التهالك منظمتنا العربية جراء محنة فلسطين، ولما كشفته الكارثة العسكرية من خلافات بين حكامها.. كادت تودى وقتئذ بالجامعة العربية الوليدة إلى التفكك، نعم، لقد أصاب الوهن منظمتنا العربية حين جرى تقسيم دولها إلى دول تقدمية وأخرى رجعية، نعم، لقد فقدت منظمتنا العربية فاعليتها عندما انعزلت عنها مصر لعقد من الزمان، على خلفية تصالحها مع إسرائيل، نعم، لقد صُدمت منظمتنا العربية جراء غزو العراق للكويت، إلى الاحتلال الأمريكى للعراق 2003، وليس آخراً بالحروب الأهلية فى عديد من الدول العربية، وعلى حدودها، وها هو مشهد الختام فى مشوارها (-1945 2018) لتكون أو لا تكون.

إن المراجعة الأولية تكشف عن موطن الداء وراء متواليات الهزائم، والسبب وراء تعثر منظمتنا العربية، ونجاح مثيلتها الأوروبية، وعن سر التباين.. بين شعوب مغلوبة على أمرها، وأخرى تختار حكوماتها وتملك زمام أمورها.

إن الجامعة العربية رغم كل ما اعترضها من أزمات تكفى لتقويض تجمعات دولية أشد رسوخاً- رغما عن ذلك فهى قادرة على البقاء.. السبب يرجع إلى أن موقعها الجيوسياسى قد توحدت وحداته أكثر من مرة فى ماضيها الطويل (سواء بالقوة أو الهيمنة أو القهر).. خلال حكم الإمبراطوريات ما قبل العهد العربى، إلى أن توحدت بعده فى ظل حكم خلافى أو سلطانى.. إلخ، ولكنها حين توحدت فى إطار الجامعة العربية (بالاقتناع والاختيار والتعاون) فقد كان هذا التجمع (تحت رعاية غربية).. بمثابة «بدعة تنظيمية» فى تاريخ العرب لم يألفوها، كما سبق ولم يألفوا عن الغرب ما اقتبسوه عنه كالديمقراطية والدستورية والليبرالية والماركسية.. إلخ، فلا هم ولا حكامهم استساغوا هذا أو ذاك من المقتبسات الأيديولوجية أو التنظيمية الأوروبية.

وعند تشخيص حالة «رجلنا المريض» فى السياق الدولى، نجد أن الجامعة قد نشأت مع نهاية الحرب الثانية (فى ظل تحالف المعسكرين العظميين)، وكان العالم العربى وقتئذ بمشرقه ومغربه من قواعد المجهود الحربى الغربى، وعليه فقد نشأت الجامعة فى نطاق التعاون الغربى- العربى (ولا يزال كذلك) إلا إذا اعتبرنا تعقيدات الحرب الباردة من تراث الماضى.. أما عقب حرب فلسطين، فقد أصدرت القوى الغربية (أميركا- بريطانيا- فرنسا) الإعلان الثلاثى فى مايو 1950 يضمن أوضاع الهدنة بين العرب وإسرائيل.. مع معارضتها لسباق التسلح بينهما.. بوصفها صاحبة الحل والربط فى المنطقة العربية.

وفى السياق العربى.. نجد أن الجامعة العربية قد سارعت عقب الهزيمة فى فلسطين بتوقيع معاهدة الدفاع المشترك و«التعاون الاقتصادي»، وهو ما لم يتوفر تنفيذهما للآن على الوجه الأكمل نظراً لافتقارهما للتضامن السياسى، إضافة إلى أن التعاون الدفاعى المنظم لا يستقيم فى العصر الحديث دون تعاون اقتصادى منظم.

وعلاوة على اختلاف النظرة إلى الفكرة التنظيمية الغربية، واختلاف الفلسفات الاجتماعية، فقد كان لضعف أجهزة التخطيط والتنفيذ للجامعة أثرها السلبى الواضح فى مختلف المجالات.. خاصة فى الحقلين الثقافى والاجتماعى، كذا فى التنسيق السياسى الخارجى.. والسؤال الآن هل يسارع العرب بعد تفاقم الأخطار على النحو المشهود فى السنوات الأخيرة (..) إلى استدراك ما انصرم.

إن مستقبل الجامعة العربية مرتبط جذرياً فى واقع الحال، بشكل وتطور الأحداث الدولية الراهنة، وبإسرائيل.. وما الذى تريده، وكيف نكبح جماح أطماعها التوسعية مع الجارات الأخرى الإقليميات غير العربيات (…)؟ كما يرتبط مستقبلها بتطور العلاقات العربية نفسها (العنصر الحضاري)، إذ إن التوافق بين «الحضارة الأم»، والحضارة «المقتبسة» (الحديثة- شرقية أو غربية) هو شرط أساسى للتوافق السياسى بمفهومه الأشمل (موضوع حوار قديم بين ناصر/ فيصل فى جدة 1965)، من حيث إن الاتفاق فيما بيننا.. ومع الآخرين على قيم ووجهات حضارية واحدة أمر جوهرى، بقدر ما هو رهن بسائر العوامل السياسية والاقتصادية والإقليمية والدولية.

ولهذا، قد يكون.. من قبيل التجاسر.. القول بأن دور مؤسسات المجتمع المدنى وهى مغيبة لحساب الأوتقراطيات القطرية، هى فقط التى بقدرتها أن تؤدى إلى جامعة عربية قوية، ومن ثم فهى السبيل لمشاركة عربية مركزية فى نظام شرق أوسطى ندى «يتشكل فى الواقع العملي»، بالتوازى مع شراكة أورومتوسطية توقع بروتوكولاتها تباعاً».. وصولاً حتى ربما إلى «أطلسية ليست غير متكافئة».. حتى ليصبح العرب كالأيتام على مائدة اللئام، لكن ليس قبل معالجة «رجلنا المريض».

نعم إن المهمة جد ثقيلة يعين على تحملها أن الخسارة جد فادحة.

جريدة المال

المال - خاص

11:07 ص, الخميس, 6 سبتمبر 18