محمود سامي البارودي المتوفي سنة 1904
بقلم رجائي عطية
أخذ محمود سامي البارودي مساحة خاصة، وعناية أخص، بالكتاب، وقد مَرَّ بنا حين حديث الأستاذ العقاد عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، ما يحمله لكل منهما من تقدير خاص، وما عقده بينهما من مقارنات أو موافقات، ولكنه يتحدث هنا عن البارودى إمام الشعراء فى هذا الطور الحديث، وصاحب الفضل الأول فى تجديد أسلوب الشعر وإنقاذه من الصناعة والتكلف العقيم، ورده إلى صدق الفطرة وسلامة التعبير.
فى الانتقال من دور الركود والجمود فى الشعر، إلى دور النهضة والإجادة، أربع مراحل أو درجات متواليات.
«أولها» دور التقليد الضعيف أو التقليد للتقليد.
«وثانيها» دور التقليد المحكم أو التقليد الذى للمقلد فيه شىء من الفضل والقدرة.
«وثالثها» الابتكار الناشئ من شعور بالحرية القومية.
«ورابعها» الابتكار الناشئ من استقلال الشخصية أو الشعور بالحرية الفردية.
على أنه لا توجد حدود حاسمة تمنع الاختلاط تمامًا بين كل مرحلة وأخرى، سواء من الناحية المادية أم الأنحاء النفسية.
فقد ترى فى المقلد الضعيف نفحة من استقلال الشخصية ربما لا توجد بنفس القدر لدى الشاعر المبتكر فى العصور التى تكتمل فيها الحرية الفردية.
وقد ترى للشاعر المستقل نزعة إلى المحاكاة تلحقه بمعنى من المعانى بضعاف المقلدين أو بذوى الإتقان والإحكام فى التقليد.
وإنما تأتى التفرقة بين المراحل فيما يقول الأستاذ العقاد علـى التغليـب والترجيـح لا على الحصر والتقييد.
ومكان البارودى عنده، من تلك المراحل الأربعة، يأتى فى الطليعة من مرحلة الابتكار التى يأتى بها الشعور بالحرية القومية. ولكنه يقلد أحيانًا، ويبتكر أحيانًا.
على أن له ميزة واضحة لا نظير لها فى تاريخ الأدب المصرى الحديث، هى أنه وثب بالعبارة الشعرية وثبةً واحدة من طريق الضعف والركاكة إلى طريق الصحة والمكانة، وأوشك أن يرتفع فيما يرى الأستاذ العقاد هذا الارتفاع بلا تدرج ولا تمهيد ؛ وكأنه القمة الشاهقة التى تنبت فى متون الطود عما قبلها.
ولا يكاد يوجد قمة تساميه أو تدانيه فى الخمسمائة سنة السابقة على عصره.
على أن الإشارة إلى ارتفاعه بلا تدرج ولا تمهيد ؛ لا تنفى التدرج والتمهيد كلية، ففى الصورة اسم«الساعاتى» المتقدم على«البارودى» بزمن وجيز، ودوره واضح فى الانتقال من التقليد والمقلدين العروضيين، إلى المستقلين المطبوعين.
فقد يظهر الشاعر العظيم وقبله خواء وبعده خواء، وقد يظهر وبعده أناس أقل منه وأقرب إلى من ظهروا قبله، إلاّ فى الأدب المصرى العربى الحديث، فإنه يشبه العلوم والصناعات من بعض خصائصه فى الحاجة إلى التدرج والتمهيد، لأن اللغة العربية الفصحى وهى أداتـه لا تسلس للشاعر بغير دراسة واتصال بحركة التقدم فى العلم والحضارة.
فالتمهيد فى مراحل الإجادة الشعرية ضرورى لازم كالتمهيد فى مراحل العلم والصناعة. ولم يكن قبل البارودى من هو أمتن منه. وأيضًا لم يكن قبل الساعاتى من هو أمتن منه.
على أن هذه ليست قاعدة مطردة، فقد جاء أبو تمام بعد أبى نواس، وجاء ابن الرومى بعد أبى تمام، وجاء المتنبى بعد ابن الرومى، وجاء المعرى بعد المتنبى، ومع ذلك فإن المناظرة بينهم ليست مناظرة ترتيب وصعود فى الدرجات.
ومن هنا تبدو صعوبة التجديد فيما كان يعانيه أدباء الجيل الغابر. فإن أحدًا منهم لم يكن ليستغنى عن تمهيد ما قبله ودرجات من سبقوه.
وعلى الرغم من ضرورة هذا التمهيد ولزومه، فإن وثبة البارودى هذا الإمام القدير توشك أن تنسينا فيما يقول الأستاذ العقاد ما تقدمها من التدرج والتمهيد لظهورها.
وقد قال الأستاذ حسين المرصفى فى كتابه الوسيلة الأدبية، كما مرّ بنا، إن محمود سامى البارودى لم يقرأ كتابًا من فنون العربية بيد أنه عندما بلغ سن التعقل وجد فى طبعه ميلاً إلى قراءة الشعر وعمله، حتى تصور فى برهة يسيرة هيأت التراكيب العربية، فصار يقـرأ وهـو لا يكاد يلحن.
والأستاذ المرصفى لا يعنى بهذا إلاَّ أن البارودى لم يتعلم النحو والصرف والبلاغة والعروض، ولم ينظم الشعر لأنه تعلم العروض، ولكنه تعلق بالشعر عن هوى وسليقة، وأتقن أوزانه ونغماته بموسيقية مطبوعة المطبوعين فى العصر الحديث.
[email protected]
www. ragai2009.com