محمد عثمان جلال المتوفي سنة 1898
بقلم رجائي عطية
إذا كانت «القاهرية» أو «البدوية» هى سمة بعض من مرَّ تناولهم من الشعراء ، فإن «المصرية الكثيرة الشاملة» ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ هى السمة التى امتاز بها «محمد عثمان جلال» فى حياته وفى مؤلفاته ، بل امتاز بها حتى فى مترجماته ومقتبساته.
فلم يكن محمد عثمان جلال فى خلائقه النفسية «قاهريًّا» من الطائفة التى تعاقبت عليها «تقاليد» العصور حتى أوشكت أن تكون نحلة متميزة من شعائرها وأسرارها.
وإنما كان مصريًّا يذكرك بمصر كلها من أقصاها إلى أقصاها . ويتمثل فيه خلق الحضرى الرقيق الحاشية كما يتمثل فيه الريفى المطبوع على البساطة والطيبة والحنكة .. وعنده من المرح وخفة الروح ـ ما عند ساكن القاهرة وساكن الساحل وساكن الصعيد ، ومن حضور البديهة وسرعة اللسان بالمَثَل السائر ـ ما عند أذكياء الفلاحين.
كان مولده فى «ونا القس» إحدى قرى بنى سويف ، ومنشأه فى القاهرة ـ متمين لقسطى الروح المصرية فيه.
وربما وجد من المتعلمين المصريين فى العصر الحديث من إذا عرف اللغات الأجنبية ـ يخرج بها من صبغته المصرية وينتقل إلى صبغة أوروبية أو مزيج من المصرية والأوروبية.
أما شاعرنا «محمد عثمان جلال» ، فمع دراسته للغات الأجنبية ـ لم يخرج قط من صبغته الوطنية ولم يتحول قط عن تفكيره وذوقه . بل هو فيما يقول الأستاذ العقاد ـ قد « مَصَّرَ » موليير ولافونتين حين ترجم لهذا أمثاله ولذلك رواياته ، وبقى مصريًّا كما هو على طبيعته ، ونقل موليير ولافونتين إلى تلك البيئة المصرية وإلى تلك الطبيعة الشخصية.
ذكره أحمد شفيق باشا فى مذكراته فى نصف قرن ضمن إلمامه بطلائع النهضة الفكرية ؛ فقال عنه إنه ترجم أساطير لافونتين وهى مجموعة قصص خرافية صيغت عن لسان الطير والحيوان تتضمن عبرًا ومواعظ ، وأحسن اختيار الأمثال العربية المقابلة لمعانيها وسماها «العيون اليواقظ» فى الأمثال والمواعظ . ومما يذكَر من ارتجاله الطريف بيتان ارتجلهما أمام رياض باشا يشكو تأخره فى الترقية عن الموظفين من أقرانه :
الخير عم الناس وفـاض
ما حـد إلاَّ واسـتكفـى
إلاَّ أنا يا سيدى ريـاض
« وقعـت من قعر القفة »
إلى ما كان يروى من فكاهاته ، وسوقه الأمثال فى نكاته ومزحه .
● ● ●
وكان له أسلوب سهل فى الترجمة الشعرية وإن كان لا يسمو فى البلاغة ولا يسلم من الخطأ فيما يقول الأستاذ العقاد ، وأورد مثلاً لذلك نموذجًا من ترجمته فى قصة « السبع حين شاخ » من كتاب العيون اليواقظ .. قال فى أولها:
السبع وهو الضيغم المشهور
أودت به السنين والشهور
وعلى هذه الطبقة من السهولة ـ جرى فيما نظم من أراجيزه المبتكرة التى تدخل فى باب القصص والنوادر ، وأشهرها وصفه لرحلة الأمير توفيق فى الوجه البحرى .. من بنها إلى زفته وميت غمر :
ومذ صحا ديك القرى وصحا
وأيقـظ التـاجـر والفلاحـا
أقبلت الناس إلى الــوداع
من نفسها تجرى بغيـر داع
واتبعونا فى المسير البتـة
حتى وصلنا معهـم لزفتــة
لكن رسا الوابور حكم الأمر
بالموكب العالى على متغمـر
ونحن فى زفتة قد أرسـينا
وبالهنـا للحـر قـد نسـينا
وبـدلـت بالأنـس والسـرور
منـازل الشـرود والحرور
وحصـل التشـريف للأهـالى
لمـا دعاهم الجنـاب العالى
ويرى الأستاذ العقاد أنه مما لا شك فيه أن هذا الشاعر على ضعف صياغته وقلة نصيبه من الشاعرية الأصيلة ـ كانت له ملكة قيمة فى فن القصة والرواية المسرحية ، فكانت هذه الملكة تنزع به إلى نظم الزجل غالبًا والشعر أحيانًا فى وصف ما يقع له من النوادر والفكاهات والرياضات . ومن ذلك ترجله فى الأزهار وترجله فى المأكولات.
وأقوم من هذا روايته المسرحية عن المخدمين والخدم ، وهى باكورة فى وضع الروايات المصرية وتمثيل البيت المصرى والمجتمع الوطنى .. يندر ما يقاربها فى بابها من روايات هذا الجيل ، ولذلك سمى بحق « أبا المسرحيات الوطنية فى العصر الحديث».
ولعل من جنايات « المقامة » عليه ـ فيما يذكر الأستاذ العقاد ـ أنه على أسلوبها اقتبس قصة « بول وفرجينى » فتقيد فيها بالسجع فى كل فقرة وفاصلة من عنوان الرواية إلى كلمة الختام ، فسماها « الأمانى والمنة فى حديث قبول وورد جنة » ، وقال فى تصدير الكتاب إنه أخرجه من الطباع الأفرنجية وجعله من عوائد الأمة العربية.
ولكنها طريقة فى التمصير جاوزت الجد ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ إلى ما يشبه النكتة !
www. ragai2009.com