أقبلت شركات ناشئة لتصنيع النبيذ، مثل ” تيسينوم إيروسبيس” و”تيرا إن آي إس” ، على استخدام تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية لحصاد العنب بجودة ملائمة وفي توقيت مناسب، بحسب وكالة بلومبرج.
تتسبب الحرارة المرتفعة بجفاف العنب في مواقع غير معهودة داخل فرنسا، بينما تساعد في الإسراع ببدء الحصاد في بعض الأماكن.
يمثل تحديد موعد الحصاد أحد أهم القرارات التي يمكن أن تتخذها شركات تصنيع النبيذ. إذا كان الحصاد مبكراً تماماً تكون النتيجة مرارة شديدة، وإذا جاء متأخراً يكون الطعم حلواً للغاية. إنها عملية إحداث توازن حساسة، التي بدأت تتغير بطريقة متنامية جراء أزمة المناخ.
في فرنسا، أفسدت ظاهرة الاحتباس الحراري هذه المعادلة القديمة لفترة من الزمن. شهدت مناطق إنتاج النبيذ عبر أنحاء البلاد كافة، فصولاً مبتورة، حيث تقدم موعد الحصاد في منطقة تسمى ” شاتونوف دو باب” ، وهي واحدة من أعلى المناطق قيمة، 3 أسابيع تقريباً منذ عام 1960. وبالتزامن مع ذلك؛ تظهر أمراض النبات في مناطق لم تشهدها من قبل، وتتبدل أنماط المطر.
تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية
بهدف التأقلم مع المتغيرات، يجري استبدال الطرق القديمة بأخرى جديدة بصورة متنامية. في هذه الحالة، تهدف البيانات الدقيقة إلى تتبع مراحل نمو وصحة العنب وسط بيئة ترتفع فيها درجات الحرارة على نحو سريع.
دانييل دي فيتشي، مدير مشروع في ” تيسينوم إيروسبيس”، والمسؤول عن منصة “ساتورناليا” لبيانات تقييم محاصيل العنب التي تنتجها شركات تصنيع النبيذ، قال: “في ببعض الأحيان، لا يجمع المنتجون بيانات عن العنب، وحتى لو فعلوا ذلك؛ فإنهم لا يحتفظون بها بطريقة سهلة الاسترجاع، أو لا يعلمون أي قطع من الأراضي قد جمعوا العينات منها. لكن في الوقت الحالي، يمكن لقطاع إنتاج النبيذ اتخاذ قرارات تستند إلى بيانات، وهي طريقة ليست ساحرة، لكنني أعتقد أنها الوسيلة الوحيدة لمواصلة التقدم”.
أما مارك توندريو، رئيس ومؤسس “تيرا إن آي إس”، وهي شركة تقدّم بيانات زراعية تعتمد على صور للأقمار الاصطناعية والطائرات من دون طيار، فقال إن أعداداً كثيرة من المزارعين الفرنسيين تنضم إليهم. وأضاف توندريو: “قبل 10 أعوام فقط، كان العملاء الكبار لهذه التطبيقات من بوردو غالباً، وحالياً ينتشر الأمر أكثر في المناطق الجنوبية”.
لكن، بينما تستخدم فعلاً هذه التكنولوجيا في قطاع النبيذ، فقد تسهم قريباً بدور أكثر أهمية للمساعدة على تكيّف قطاع الزراعة بصفة عامة.
أزمة غذائية
بعد عقود من التطور، بدأ عدد الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية يتحرك نحو الاتجاه الخاطئ. تقود ظاهرة الاحتباس الحراري واضطرابات سلاسل التوريد المرتبطة بالطقس القاسي فضلاً عن تقلص العناصر الغذائية جراء ثاني أكسيد الكربون الإضافي في الغلاف الجوي أيضاً إلى أزمة غذائية على مستوى العالم. تعد هذه الاتجاهات مريعة لا سيما في المناطق الأكثر عرضة للحرارة المميتة بالنسبة إلى المحاصيل، إذ تقف دول عديدة على شفير المجاعة.
في 10 مناطق مناخية مرتفعة الحرارة تمتد من غواتيمالا إلى أفغانستان، تضاعف معدل انتشار الجوع الشديد خلال 6 أعوام، بحسب جمعية “أوكسفام ” للأعمال الخيرية في بريطانيا. لكن تقنية مستشعرات الأقمار الاصطناعية المتطورة يمكنها أن تلعب دوراً هائلاً في إبطاء ذلك. يتصور الخبراء مستقبل المزارعين حيث يمكنهم إدارة الحقول وفقاً لبيانات مراقبة مجانية للأرض تتركز غالباً حول أمراض المحاصيل، وانتشار الآفات، واحتياجات النبات للعناصر المغذية، والإجهاد المائي، والوقت المثالي لبدء الحصاد وتقييم الجودة.
أشار توندريو إلى أن الجمع بين التوصيات القائمة على بيانات الأقمار الاصطناعية أو الطائرات من دون طيار، إلى جانب آلات زراعية مزودة بنظام تحديد المواقع، يمكن أن يغيّر وجه الزراعة. خلال هذه العملية، يمكن تفادي وقوع أسوأ ظاهرة احتباس حراري وشيكة للمزارعين على مستوى العالم. على سبيل المكافأة؛ فإن تكنولوجيا من هذا النوع قادرة على تقليص انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في القطاع الزراعي بنسبة 13%، بحسب تقرير صادر في أبريل الماضي عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
يتوقع التقرير تضاعف سوق بيانات الأقمار الاصطناعية في الزراعة تقريباً بحلول 2030 إلى نحو مليار دولار. تقدر قيمة الوقاية من خسائر المحاصيل بفضل استخدام الأقمار الاصطناعية للكشف عن الآفات ومسببات الأمراض بـ400 مليون دولار، كما يتوقع أن يكون التراجع 10% تقريباً لاستهلاك المياه عن طريق معلومات المراقبة الجوية.
تطور تكنولوجي
كثيراً ما استُخدمت تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية لمساعدة الحكومات وأسواق العقود المستقبلية على إجراء تقييمات على مستويات مختلفة من المقياس، على غرار حجم محصول الذرة المقبل في الولايات المتحدة الأميركية أو القمح في أوكرانيا. لكن التكنولوجيا الأحدث قادرة على مساعدة المزارعين الأفراد على قياس حجم محصولهم الذي يمكن حصاده وزيادته.
تقدم الأقمار الاصطناعية التابعة لوكالة “ناسا” ووكالة الفضاء الأوروبية وشركات من القطاع الخاص على غرار “بلانيت” ومقرها في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية، صوراً للكرة الأرضية تشمل مجموعة من النطاقات على الطيف الكهرومغناطيسي.
عندما يضرب ضوء الشمس سطح كوكب الأرض، تنعكس أطوال موجية محددة مرة ثانية بحسب المادة التي يصطدم بها الشعاع الضوئي وحالته المادية. يمتص مادة الكلوروفيل -التي تدخل في غذاء النباتات- الكثير من الضوء المرئي، في حين يعكس هيكل خلية ورقة النبات الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء القريبة.
تقيس المستشعرات والكاميرات شدة الموجات المنعكسة من الأرض. تشير المستويات العالية من ضوء الأشعة تحت الحمراء القريبة المنعكسة بالاقتران مع ضعف الانعكاس للنطاق المرئي، إلى وجود غطاء نباتي كثيف، على غرار الغابات أو عبر محاصيل تتمتع بصحة جيدة. من شأن التباين الضئيل في انعكاس النطاقين الطيفيين أن يشير إلى وجود غطاء نباتي ضعيف، على غرار المناطق الصحراوية أو التربة الجرداء.
أثبتت الفروق الدقيقة في هذه العلاقات أنها تشكل مؤشرات موثوقة لمستويات وجود النيتروجين، وهو عنصر غذائي رئيسي للنبات، علاوة على الكتلة الحيوية النباتية، ومنطقة نمو الأوراق، ونسبة الكلوروفيل، وكلها مرتبطة بنسبة توفّر المياه في التربة. يمثل مؤشر التباين الطبيعي في الغطاء النباتي ، أحد مقاييس الأقمار الاصطناعية الأكثر شيوعاً في قطاع الزراعة، مقياساً لهم. أيّد علماء من “تيرا إن آي إس” ومعهد “إيكول دي إنجينير دي بوربان ” وهو معهد بحوث في مدينة تولوز الفرنسية، دقة البيانات، حيث أظهرت ارتباطاً قوياً بين مستويات النيتروجين المأخوذة من عينات الأوراق والتحليلات المشتقة من صور الأقمار الاصطناعية.
استغلال البيانات
مع كل نقطة ضوئية (بكسل) لصورة تشكل مساحة صغيرة تبلغ نصف متر مربع، يمكن وضع بيانات القمر الاصطناعي على خريطة لحقل ما، إذ يمكن معه استخدام الأسمدة فقط عند الحاجة إليها. يدل هبوط مؤشر التباين الطبيعي في الغطاء النباتي مثلاً على أن المحاصيل بينما تقترب من موعد حصادها؛ فإنَّها تحتاج إلى استخدام الأسمدة النيتروجينية.
قالت ميستي تاكر، خبيرة القطاع في مجال الزراعة لدى “بلانيت”: “تعاملنا مع حقول المحاصيل على أنها مثل كل هذه الأراضي تماماً، برغم أننا كنا على علم يقيني بأن الأمر ليس كذلك، وتساعدنا بيانات الأقمار الاصطناعية على إدارة مجالاتنا في كل صغيرة وكبيرة بمستوى دقة أكبر للغاية”.
إذا توفرت هذه التكنولوجيا على نطاق واسع؛ فإن الموارد المدخرة، وتفادي الانبعاثات، والمحاصيل المحمية في مواجهة المشهد المناخي المتغير، يمكن أن تؤثر بشدة على كل من الجهود المبذولة المضنية لإبطاء الاحتباس الحراري وحماية إمدادات الغذاء.
بدأ صنّاع القرار يتفهمون الأمر. فقد أخذ الاتحاد الأوروبي يعدّل سياسته الزراعية العامة مع مراعاة ما ترصده الأقمار الاصطناعية لكبح انبعاثات الغازات الدفيئة، واستخدام الأسمدة، ومناطق المحيطات غير القابلة للحياة. وفي الولايات المتحدة، يضطر قانون الاتصال بالأقمار الاصطناعية للزراعة المتقنة لجنة الاتصالات الفيدرالية إلى النظر فيما إذا كانت تعديلات قواعد الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية يمكن أن تسهم في مجال الزراعة المتقنة، ووضع توصيات للكونغرس الأميركي إذا كان الأمر على هذا النحو. وافق مجلس النواب على القانون في أبريل الماضي.
دقة عالية
قالت كارين سانت جيرمان، مديرة علوم الأرض في “ناسا”، إن مجموعة أجهزة مراقبة الأرض التابعة للوكالة تساعد فعلاً على “تقديم تنبؤات عالمية ومحلية حول مدى توفّر المياه وصحة المحاصيل ومعدلات الإنتاج”. قد تحرز أداة مجموعة أجهزة مراقبة الأرض المخطط لها، تقدماً أكبر. في هذه الأثناء أيضاً، تتميز أقمار “سنتينل” التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية بمزيج من الدقة المكانية والزمنية، علاوة على عرض النطاق الترددي الواسع الذي ثبت أنه مفيد، لا سيما بالنسبة إلى مقدمي بيانات الأقمار الاصطناعية للقطاع الزراعي.
سارة أنتوجنيلي، مديرة البحوث والتطوير في “أغريكولوس” ، الشركة الإيطالية لبيانات الأقمار الاصطناعية التي تقول إنه يمكنها العمل على 140 محصولاً بداية من العنب حتى الحبوب؛ قالت: “المحصول دائم التغير، لذلك ينبغي لك أن تُسرّع اكتشاف المشكلات، وتعد نطاقات (سينتينل) المختلفة الخاصة بالتعرف على نسبة رطوبة التربة وصحة الغطاء النباتي، نادرة للغاية”.
أثبتت دراسة بالتعاون بين “تيرا إن آي إس” و””إيكول دي إنجينير دي بوربان”، أن بيانات “سينتينل” المتوفّرة مجاناً أعلى دقة في تقييم مستوى النيتروجين من البيانات بالغة الدقة المقدمة من الأقمار الاصطناعية التي تتطلب رسوماً للحصول عليها. وقد تقدّم الأدوات الجديدة فهماً أكبر.
بالتأكيد، لا يمكن للأقمار الاصطناعية فعل كل شيء. تحتاج النتائج على الأرجح إلى التأكيد على أرض الواقع، حيث يحذر خوسيه مانويل أميغو، خبير التصوير فائق الطيف والتحليلات الكيمياوية في مؤسسة “باسك فور ساينس” للعلوم في مدينة بلباو الإسبانية، من أن الاعتماد المفرط على بيانات الأقمار الاصطناعية قد يُسفر عن إهمال.
أضاف: “تعتبر تقنية الاستشعار عن بعد مجالاً رائعاً يساعد المزارعين في حالات عديدة، وبرغم ذلك؛ تُقبل في كثير من الأحيان أمور افتراضية بينما تُرفض أوجه القصور. لا تعد معالجة البيانات عملية سهلة، ويمكن أن يحقق ربط المقاييس بالمشكلات الفعلية قفزة بعيدة للغاية. ينسى الباحثون أن الإجابات التي يقدمونها للمزارعين ينبغي أن تتبعها عملية تحقق مكثفة بالإضافة إلى تفسير كيماوي صحيح”.
تدخل مبكر
برغم ذلك؛ ذكرت كايتلين غولد، أستاذة علم أمراض النبات في جامعة “كورنيل” بمدينة جنيف في ولاية نيويورك الأميركية، أنها متحمسة لإمكانية اكتشاف أمراض المحاصيل في وقت مبكر بما يكفي للتدخل ومعالجتها. وأضافت: “سيُفاقم المناخ المتغير النطاق المواتي لعمل مسببات الأمراض العدوانية، في حين أن مواجهة النبات للإجهاد الحراري والجفاف ستعرضها أكثر للأمراض والعدوى الانتهازية”.
اختتمت غولد بالقول إن الأقمار الاصطناعية التي تتيح الحصول على “تقييمات عالية الجودة للمخاطر، تسمح بتدخل مبكر ناجح”.