تعود مساحات تفكيري لأكثر من عقدين من الزمن، أعرف فيها عن قرب أحد «القادرين باختلاف»، ممن كان يكبرني بسنوات قليلة، وكانت سنوات تعليمه بين أسوار مدرسة مقتصرة على ذوي الإعاقات، يعود منها لجدران منزله يحتمي بين أركانه من قسوة التنمر التي كانت تلاحقه بالشوارع، سواء بمزاح سخيف أو بسخرية لا تعترف بالدمج وليس بقلبها رحمة لذلك الحق الإنساني.
وكأنّ هذا الشاب الذي يتجاوز الأربعين الآن كُتِبَت عليه عُزلة مجتمعية وُلِدَت من رحم اليوجينيا، تلك الفكرة التي بعثها البريطاني فرنسيس غالتون عام 1883م، وكانت نواتها الأولى تسعى إلى منع تكاثر ذوي الإعاقات والعمل على تحسين العرق أو النسل الإيجابي، كأنه ازدراء للإنسانية وسلب لحقوقها، يصفه الشاعر المصري الراحل، أمل دنقل، قائلًا:
ها طفلنا أمامنا غريب
ترشفه العيون والظنون بازدرائها
ونحن لا نجيب
وربّما لو لم يكن من دمنا
كنّا مددنا نحوه اليدا
كنّا تبنَّيناه راحمين نبله المَهين
ذلك الازدراء الذي أوجد أوقات قاسية في عمر مَن نعرفهم، يبدو أنه بمسار تغيير، اقتربت منه خلال حديث غير مخطط له مسبقًا مع ابنتي سما التي تجاوزت 13 عامًا، عقب عودتها من مدرستها بمدينة دمنهور شمالي مصر، وهي تحكي بسعادة عن زميلتها سامية، من ذوي الهمم في فصلها بالصف الثاني الإعدادي، وعن مشاركتها أعمال الكتابة والرسم والمزاح، في اندماج لم يكن مكفولًا ضمن حقوق التعليم والتواصل المجتمعي الإيجابي كحالة ذلك الشاب وغيره قبل عقود.
في حصة الرسم، تذهب سما للجلوس بجوار زميلتها سامية، لا اختلاف بينهما، معًا ترسمان عَلَم مصر والأهرامات، الأولى تخط بقلمها وألوانها، والثانية تُقلّد بملامح تطير من الفرحة، كما تصف لي ابنتي تلك اللحظات، وهي تذكرني بقصة قصيرة كَتَبَتْهَا منذ سنوات قليلة، عن تلميذ أصبح من ذوي الهمم عقب حادث أليم، ولم ييأس والتحق بمدرسة قريبة من منزله، وتحدى مصاعب الاندماج بين أقرانه واستطاع التفوق، حقًّا ما أشبه واقع الليلة بخيال البارحة!
وتلتقط ابنتاي هَنَا بالصف السادس الابتدائي وحلا بالصف الرابع الابتدائي، أطراف حديث أختهما الذي كنتُ مندهشًا من حدوثه على هذا النحو، وأكدتا لي أن في مدرستهما الابتدائية أيضًا زميلات مماثلات بقدرات مختلفة، فبينهن من تكتب بإحدى قدميها، في ترسيخ لذلك الحق الإنساني الذي يتسع كما تقول الأرقام الرسمية بمصر.
وفق تقديرات رسمية في نوفمبر/ تشرين ثان 2024، لوزارة التربية والتعليم المصرية المعنية بدعم نظام الدمج، فإن عدد الطلاب المستفيدين من الخدمات المقدمة لطلاب نظام الدمج التعليمي للعام 2023/ 2024 بلغ 159 ألفًا و825 طالبًا وطالبة، مقارنة بـ 3697 طالبًا وطالبة عام 2012 / 2013، و37 ألفًا و519 طالبًا وطالبة لعام 2017/ 2018.
والمستفيدون من الدمج في فصول تغطي كل محافظات مصر الـ27، هم المصابون بـ«بطء التعلم، واضطراب طيف التوحد، ومتلازمتي داون، وارلن والشلل الدماغي، وضعف السمع، والإبصار، وفرط الحركة وتشتت الانتباه»، وفق معلومات الوزارة.
وبين ذلك المسار المتصاعد، وتلك المآسي القديمة، لا مفر من أن نعي أن «كل تغير يحدث في أمة من الأمم وتبدو ثمرته في أحوالها، فهو ليس بالأمر البسيط، وإنما هو مركب من ضروب تغيير كثيرة، تحصل بالتدريج في نفس كل واحد شيئًا فشيئًا، ثم تسري من الأفراد إلى مجموعة الأمة، فيظهر التغيير في حال ذلك المجموع نشأة أخرى للأمة»، كما يقول الكاتب المصري الراحل، قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة عام 1899م.
وما يحدث بالتدريج أحيانًا لعلاج أزمات دول وشعوب منهكة بأمراض سياسية واجتماعية معقدة، قد يحصل بالدمج أحيانًا أخرى، فهو أشبه بشجرة، سبق وأن وصفها الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي قائلًا:
الشجرة أخت الشجرة، أو جارتها الطيّبة.
الكبيرة تحنو على الصغيرة، وتُمدُّها بما ينقصها
من ظلّ. والطويلة تحنو على القصيرة،
وترسل إليها طائرًا يؤنسها في الليل. لا
شجرة تسطو على ثمرة شجرة أخرى، وإن
كانت عاقرًا لا تسخر منها. ولم تقتل
شجرةٌ شجرةً ولم تقلِّد حَطّابًا
شجرة الدمج التي تستظل بها تلك السطور، أصلها ثابت في كل الأديان والمواثيق الدولية، بمثابة كعبة تحج لها الفئات المهمشة، ولا مفر من أن يتبني الجميع ذلك الحق الإنساني الذي يجب أن يدعم باستمرار؛ لنتجاوز عقودًا عرفت داخلها أفكار اليوجينيا الغربية غير المتجذرة فكريًا بأوطاننا، والتي تريد فقط التحكم في الجنس البشري باقتناء مجموعة معينة لتبقى وتنمو وأخرى محكوم على حقها الإنساني بالوأد سواء بالعزلة أو بالإقصاء والتهميش، بسبب تصورات قاصرة، وقعت أحيانًا في التنمر والإيذاء والاستغلال والتقليل، ولا تحبذ إمكانية إدماج ذوي الهمم في فرص التعليم أو التنمية أو العيش بكرامة؛ مما جعل انخراطهم في المجتمع بشكل جاد وحقيقي ضربًا من خيال قبل عقود.
ذلك التعريف الذي يلاحق اليوجينيا يبارزه الدمج لغة واصطلاحًا، حاملًا معاني التعايش والامتزاج، فبحسب قاموس المعاني بشبكة الإنترنت، دمَج الشَّيءُ في الشَّيءِ: دَخَل فيه واستحكمَ، ودَمَجَتْ شَعْرَها: ضَفَرَتْهُ، ودمج الألوانَ: خلطها، وجعل بينها امتزاج، واِنْدَمَجَ في جَوِّ الْمَدْرَسَةِ : تَكَيَّفَ مَعَهُ، واِنْسَجَمَ، فضلًا على أن الدمج في التعليم وفق منظمة اليونسيف بمصر، «يعني أن كل الأطفال مع اختلاف قدراتهم يكون لهم مكان في المدرسة، على أن يتم تحديد الأهداف التعليمية لكل طفل على أساس ما يستطيع تحقيقه من غير ضغط أو مقارنة، أو إحساس بالتمييز أو الانعزال»، وفق ما ذكرته المنظمة عبر صفحتها الموثقة بفيسبوك عام 2018، والذي كان عام ذوي الإعاقة بمصر لأول مرة.
ولا تعترف تلك اليوجينيا بتلك المعاني عادة، وستغمض أسماعها عند قراءة الاتفاقية الأممية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة المكونة من ديباجة و50 مادة، والتي تستهدف حسب مادتها الأولى «تعزيز وحماية وكفالة تمتع الأشخاص ذوي الإعاقة تمتعا كاملًا على قدم المساواة مع الآخرين بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتعزيز احترام كرامتهم المتأصلة»، وتنص في مادتها 24 على أن الدول الأطراف «تسلّم بحق الأشخاص ذوي الإعاقة في التعليم دون تمييز» وتوجه بعدم استبعادهم من النظام التعليمي وتمكينهم من الحصول على التعليم المجاني على قدم المساواة مع الآخرين في المجتمعات التي يعيشون فيها.
فتلك الحقوق المهددة بهذه اليوجينيا التي أحيانًا تلاحقنا في الحياة، تذكرنا بأجزاء من رواية الكاتب المصري عمرو عبدالحميد المعروفة باسم «أرض زيكولا»، وتشير إلى أن كل فقير في ذكاء عقله محكوم عليه بالفناء، وأن كل مَن يملك ثروة الذكاء فمن حقه البقاء، في رواية ترشدنا إلى أهمية الخروج من كل أرض زيكولا هربًا من ضيق اليوجينيا إلى سعة الدمج وفرارًا من أرض انتقائية لأفق رحب فيه احترام كل حقوق الإنسان دون تجزئة.
ومن دواعي القلق أن نجد مثل أفكار اليوجينيا حاضرة في عصرنا المضطرب، مع الحديث المترجم المنسوب إلى إيرول ماسك، والد الملياردير إيلون ماسك، والذي يشير إلى أن «الإنجاب يجب أن يُعامل كما تُعامل تربية الخيول»، في إشارة إلى اختيار الأجيال القادمة بناءً على معايير جينية معينة لضمان بقاء البشرية على نحو معين، قائلا: «يكفي أن تذهب إلى إنجلترا وتذهب إلى منطقة شيلتنهام، وهي منطقة تربية الخيول.. تقول انظروا، لن نربي الخيول بعد الآن وفقًا لأي معيار. لدي بعض الخيول القديمة التي وجدتها في نيجيريا وسنخلطها مع خيولكم السباقية… سيقولون لا، لا، لا، لا، لا».
«ماسك» لم يتوقف عند هذا الحد بل أشار إلى أن الدول التي تمارس سياسة «البقاء للأصلح» ليست جديدة في هذا المجال. وقال: «كل دولة مارست شكلًا من أشكال الانتقاء الطبيعي»، ويشير ماسك هنا إلى ضرورة الانتقاء البيولوجي عند التفكير في الإنجاب، معتبرًا أن هذه الآراء «ليست فاشية»، وفق النص المترجم الذي نقله الموقع الإلكتروني لقناة «سكاي نيوز عربية» في 30 نوفمبر/ تشرين ثان 2024.
وعودة خيول اليوجينيا القديمة بين تلك السطور التي اختتمت باعتبار أن «الانتقاء ليس فاشية»، تقود البشرية لتساؤلات محيرة طرحها الشاعر اللبناني الراحل إيليا أبو الماضي عندما قال:
هَل أَنا حُرٌّ طَليقٌ أَم أَسيرٌ في قُيود
هَل أَنا قائِدُ نَفسي في حَياتي أَم مَقود
أَتَمَنّى أَنَّني أَدري وَلَكِن لَستُ أَدري
إن غبار خيول اليوجينيا القديمة، لا يمكن تجاهله، لذلك نحن أحوج لترسيخ حق الدمج ليس في التعليم فقط، بل في مناحي العالم، الذي يقسو على الأضعف والمختلفين داخله ومعه، رافعًا شعار البقاء للأقوى، وكأنه يصنع مجددًا مأساة أوديب الذي تنبأ العراف قبل ميلاده بأنه سوف يقتل أباه ويتزوّج أمه، فيوجه الأب «لايوس»، بنزعته الإقصائية الأم «جوكاستا»، بالتخلص منه غير عابئ بحقه في الحياة، ويشفق خادمها أن يلقيه من فوق جبل ويمنحه لراعي غنم، ويكبر أوديب، وأمام باب مدينة يتشاجر مع رجل يصادف أنه أباه ويدفعه ويقتله، ثم يقابل وحشًا أسطوريًّا فيهزمه، ويصير ملكًا على تلك المدينة ويتزوج مليكتهم «جوكاستا»، أمه دون أن يدري، قبل أن تتلاحق الأحداث ويعرف أوديب الحقيقة وتقتلُ «جوكاستا» نفسَها حين تعلم أنها تزوجت ابنها، ويفقأ الابن عينيه عقابًا لنفسه.
لا يجب أن يحدث ذلك ولا ننتظر مأساة كهذه من جديد، يجب أن يعود الدمج كما تخيله الشاعر أمل دنقل حين قال:
أوديب عاد باحثا عن اللذين ألقيناه للردى
نحن اللّذان ألقياه للردى
وهذه المرّة لن نضيعه
ولن نتركه يتوه
ناديه
قولي إنّك أمّه التي ضنت عليه بالدفء
وبالبسمة والحليب
قولي له أنّي أبوه
ما عاد عارا نتّقيه
العار: أن نموت دون ضمّه
نعم فالعار أن يحيى العالم دون ضم كل الفئات المهمشة، العار أن يعيش البعض بينما آخرون مستبعدون، فإن الدمج الذي يجب ألا يمس القانون ولا يزعزع استقرارًا أو تنمية هو الحل بكل مستويات ومؤسسات العالم، فلا مفر من أن نتقبل الدمج حاليًا وغدا وكأنه نبوءة زرقاء اليمامة للنجاة أو فلننتظر المصير الذي حذر منه أمل دنقل سابقًا عندما قال:
أيتها العَّرافة المقدسة..
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار