شباك مفتوح.. كلمات ليوناردو دافنشى

طارق عثمان

10:22 ص, الأحد, 17 يناير 21

طارق عثمان

طارق عثمان

10:22 ص, الأحد, 17 يناير 21

فترة الإجازات فرصة لقراءات بعيدة عن العمل. وهذه السنة وقعت فى يدي المخطوطة الكاملة لكل كتابات ليوناردو داڤنشى التى وصلَتنا.

نقطة (التى وصلتنا) مهمة؛ لأن الرجل كان دائم التنقل، مقيمًا، ليس فقط فى المدن الإيطالية الكبرى فى عصر النهضة (روما، ميلانو، وفلورنسا)، ولكن أيضًا فى فرنسا، وأماكن أخرى أخذته إليها أسفار كثيرة، بما فى ذلك أنباء عن تعاملات للرجل مع الدولة المملوكية فى مصر والشام وقتها. ولا شك أن الكثير ضاع، أو ما زال محفوظًا فى مجموعات خاصة.

جمالُ مخطوطةٍ كتلك أنها مجموعات من الأفكار المتناثرة حول موضوعات مختلفة، كُتبت فى أوقات ومواقف مختلفة فى حياة ذلك العقل الموسوعى عظيم الإبداع.

ليس هناك تسلسل للأفكار، كما أن الكتابات ليست موجهة لنوع واحد من القراء، فهناك مراسلات ليوناردو داڤنشى مع أمراء مدن إيطالية مختلفة. هناك رسائل عائلية ولأصدقاء. هناك رسائل لمعاونين له. وهناك أجزاء واضح أنها كُتبت لطلَبة علم، وهذا منطقى حيث إن ليوناردو كان على اتصال مع أهم أستديوهات ووِرش العمل الإبداعى فى إيطاليا وفرنسا فى فترة حياته. ووقتها العمل الإبداعى كان يضم الهندسة والمعمار والتصنيع، بما فى ذلك ما يُمكن أن تكون له تطبيقات عسكرية.

هناك أجزاء من المخطوطة عن تصوراته الفنية.. والتصورات تعنى رؤيته لكيفية الرسم والنحت من خلال ملاحظاته عن الطبيعة. ولعل تلك من أجمل فقرات المخطوطة حيث نرى عقل وعين ليوناردو يتنقلان بين صقيع الشتاء فى جبال الألب، إلى المساحات الخضراء الكبرى فى قلب إيطاليا إلى الشواطئ الرملية على سواحل البحر الأبيض المتوسط. وفى كل ذلك هناك احترام عميق لقوة وعظمة الخلق، من رؤية بعيدة عن قناعات الأديان المنظمة ومُبحِرة فى معنى وكينونة الطبيعة. وفى تلك الفقرات نرى العالِم الباحث فى قواعد الفيزياء يلتقي بالفنان ذي الخيال الخصب، ومن الاثنين يسطع فكر، غير منظم، وربما أحيانًا مُشتت، ولكن فيه إبداع عقل خلّاق.

هذا النوع من الكتابات مهم لقراء التاريخ، ليس فقط للمهتمين بسِير عظماء مثل ليوناردو داڤنشى، ولكن أيضًا (وربما أهم) للمهتمين بتفاصيل فترات معينة فى التاريخ تظهر ملامح كثيرة لها من خلال كتابات كتلك المخطوطة، حيث نرى شخصيات شهيرة من زوايا مختلفة، وحيث نقرأ عن أحداث هامة من رؤى شخصية عايشت التفاصيل ورَوَتها حسب فهمها الخاص.

هناك أيضًا فرصة قراءة كلمات لم تدخل عليها حرفية المؤرخ ولم تُوضع فى سرد سياسى معين. تلك المادة الخام تعطي قارئ التاريخ فرصة فهم جديد لأفكار وتصورات وقناعات وأهداف، ربما لم تجد طريقها لسرديات التاريخ المألوفة.

تلك المخطوطة أيضًا مثيرة للاهتمام لنا فى العالم العربى. ذلك أن هناك فقرات يتحدث فيها ليوناردو عن الشرق، وعن الإسلام، وعن السياسة، خاصة فى فترة المماليك.. والأهمية هنا من زاويتين؛ الأولى أن اللحظة التاريخية التى كتب فيها داڤنشى كانت تلك التى قفزت فيها أوروبا أبعد كثيرًا من حيث وقف العرب والأتراك والإيرانيون وغيرهم من المجتمعات المجاورة. وعليه فهناك أهمية خاصة لكلمات الرجل، خاصة أنه واحد من أرقى العقول التى أَثْرت وأغْنَت الفكر والعلم والفن الأوروبى فى لحظة القفز والانطلاق تلك.

الزاوية الثانية هى أنه حتى تلك اللحظة أوروبا كانت تنظر للعالم العربى والتركى والفارسى على أنه الآخر – مختلف، غريب، وكافر -، وتلك كانت كلمة متكررة فى كتابات أوروبية وقتها قبل أن تخرج أوروبا من غياهب الجهل- (ولكنه على قدم المساواة من حيث القدرة والفكر والفن.. وقد كانت تلك آخر لحظة تاريخية لتلك النظرة التعادلية.. بعدها، القفزات الأوروبية فى دنيا الفكر والعلم والفن غيرت تمامًا من أسلوب الرؤية الأوروبية – ومن بعد ذلك الغربية – لنا وبالطبع كان تغير النظرة سببًا مهمًّا لتغير السياسات).

وأخيرًا هناك متعة الإبحار فى فِكر مبدع عظيم مثل ليوناردو داڤنشى أعطى نفسه حرية كاملة فى البحث والفكر ووضع الأفكار والحديث عنها، دون التقيد الزائد بما أراد وقتها أصحاب القداسة والفخامة.