هناك رؤى مختلفة لما يجرى فى لبنان الأولى أن هناك ثورة، بدأت فى أكتوبر 2019، تريد تغيير الهيكل السياسى بأكمله، وقد اثارت بذلك المطلب حفيظة وقلق الطبقة السياسية هناك، وهى الزعامات الطائفية المتحكمة فى أغلب – ولا شك – أهم قطاعات الاقتصاد فى الدولة. وعليه فإن هذه الطبقة تحارب روح هذه الثورة، وتعمل على قتلها، لأنها تعرف أن تلك الروح تحمل فيما قد تأتى به، احتمالية إنهاء سيطرة تلك الطبقة على سياسة واقتصاد لبنان، ومن ثم تُفقِد تلك الطبقة مصدراً مهولاً من القوة والإثراء.
الرؤية الثانية تأخذ الرؤية الأولى إلى أبعد. هنا القلق يذهب إلى ما بعد الطبقة السياسية. فى تلك الرؤية، روح الثورة، فكرة إنهاء النظام السياسى الذى سيطر على لبنان لعقود، اثارت مشاعر متضاربة لدى مجموعات كبيرة فى المجتمع، رافضة للأوضاع السياسية وللطبقة الاوليجارشية الحاكمة، ولكنها لاتعرف بديلاً، وتدرك بالحس الدفين أن أى تغير جذرى سيثير مشاكل طائفية كامنة مباشرة تحت السطح. ولذلك، فى هذه الرؤية، فإن المجتمع نفسه، أو مجموعات واسعة فيه، هى من يتخلى عن الثورة. هنا، المشكلة بين روح تريد التغيير وأخرى تخشاه.
الرؤية الثالثة تترك السياسة على جنب، قائلة إن السياسة اللبنانية كانت على مدى نصف قرن (منذ الستينات إلى بدايات الحرب الأهلية فى منتصف السبعينات ثم طيلة تلك الحرب، ثم طوال فترة السيطرة السورية منذ انتهاء الحرب فى بداية التسعينات إلى 2005، ثم فى الخمس عشرة سنة الماضية) دائماً كر وفر وسجالات ومعارك بين الطوائف وداخلها. فى تلك الرؤية، الطائفية السياسية هى جوهر السياسة اللبنانية، ومن ثم لا جديد تحت الشمس هنا. لكن ما تركز عليه تلك الرؤية هو الاقتصاد، وخاصة الوضع المالي. فى تلك الرؤية، ما قد خسره لبنان فى السنوات القليلة الماضية هو القدرة التى عُرف بها على مر عقود، من إدارة ماليته، وخاصة قطاعه البنكي. تلك الخسارة هى جوهر الوضع الصعب فى لبنان الآن.
هناك رؤية رابعة، تربط الوضع المالى بالسياسة، وتقول إنه صحيح لا جديد فى الطائفية السياسية وتداعياتها فى لبنان، وصحيح أن تلك الطائفية تكمن فى قلب التعايش المشترك الذى قامت عليه الدولة اللبنانية الحديثة بالظبط منذ قرن من الزمن. لكن الجديد أن الصورة الحالية للطائفية السياسية تغولت إلى قدس اقداس الوجود اللبنانى نفسه، وذلك هو الإداء التجارى والمالى للمجتمع اللبناني. بمعنى أنه دائماً كانت السياسة اللبنانية، بالطائفية القابعة فى قلبها، تعرف الحدود التى لا تتجاوزها فى طلب القوة والجاه والثراء، بحيث أن لا تدمر جوهر الروعة اللبنانية القائمة على الإبداع فى التجارة والمال والترفيه. لكن النسخة الحالية من السياسة اللبنانية أخذتها السَّكرة، فعاثت فى ذلك القدس المقدس فى الوجود اللبناني. والآن فإن المجتمع يرى امامه ما هو أخطر من سياسة طائفية، يرى أمامه تآكلاً لجوهر القدرة الاقتصادية اللبنانية، تأكلاً سببه الرئيسى فقدان النسخة الحالية من السياسة اللبنانية القادرة على إلزام نفسها بأية حدود.
الرؤية الخامسة تأخذ النظر إلى مكان محدد، إلى القوة الأكبر والأهم فى السياسة اللبنانية فى العشرين عاماً الماضية: حزب الله. فى هذه النظرة، سيطرة حزب الله على أهم مراكز القوة فى لبنان أخذت البلد بأكمله إلى مكان جديد لم يكن فيه من قبل. لبنان الآن، كدولة، بعيد عن الغرب وعن العرب. بعيد عن مراكز المال والأعمال الدولية، وبعيد عن الفكرة الأم التى قام عليها منذ قرون، كونه جسراً بين الشرق العربى والغرب. فى تلك الرؤية، لبنان الآن لاحق بمعسكر فكرى سياسي، قلبه فى طهران، يرى نفسه، ويرى الدنيا، بعيون دينية (متصلة بالعقل الشيعى الإسلامي، بكل ما فى تاريخه من خصوصية). تلك الرؤية تشعر بالاغتراب، بأن لبنان بعيد عن مكانه الطبيعي. وعليه، فإن ذلك الاغتراب قد وضع البلد فى مكان جديد، فُقِدت فيه البوصلات، وضاعت فيه التوجهات.
هناك رؤى أخرى، متضاربة، ولعل تلك الاختلافات فى النظر هى نفسها رؤية لجوهر المشكلة فى لبنان. ذلك أن روعة التنوع فى ذلك البلد الجميل والراقى حملت دائماً فى طياتها مخاطر التشتت والمواجهات وأحياناً الاقتتال.
لكن الحاصل أنه، كما يحدث دائماً فى لبنان كل ثلاثين عامًا أو ما يقاربه، هناك لحظة قلق وخوف، فى ظاهرها مشكلة اقتصادية كبرى، وفى داخلها صورة جديدة لذلك السؤال الدائم فى السياسة اللبنانية، عن معنى لبنان وعن كينونة الدولة الجامعة لتلك الطوائف المختلفة وتلك الرؤى المتنوعة.. وعن التوازن بين القيم الكبرى، وايضًا مواطن الخطورة، فى الاختلاف.