اطمأننت لوسادتى مرهقا، من ديسمبر 22، تكتنفنى خيوط نور أول يناير 23، وفيما يرى النائم (كما رأى نجيبنا المحفوظ)، رأيتنى ثالث ثلاثة بساحة السوربون بباريس؟ عالم المصريات الفرنسى جون فرانسوا شامبليون والنحات فريديريك أوغست بارتولدي، متحلقين حول منحوتة بارتولدى الرخامية لشامبليون، مفكرا ومستندا بحذائه الأيسر على رأس الملك تحتمس الثالث! وعلى خلاف القسمات الوديعة لشامبليون بصوره المعروفة، كان عابسا وترامى لى صوته لائما بارتولدى قائلا: «ألم تقرأ عبارتى إن كيانى كله مصر، وهى لى كل شيء؟ ألا تعلم أن مصر ولع فرنسي؟ كيف سولت لك نفسك بعد وفاتي، أن تدس فكرك بحذائى ليدعس رأس ملك مصري؟ هل وجدت لى كلمة واحدة تدعى فوقيتى على رمز حضارة، أفنيت عمرى فى فهم أبجدياتها؟ أعطنى سببا واحدا لإقحامى فى مؤامرة كهذه؟ لا أتصورك تهين أبحاثى ومجهوداتى، بهذه الصورة المزرية مهما كان حسن نيتك فى تمجيدك الخبيث! لم تكن لى مصر يوما دونية أو حتى لنابليون، وستظل حضارتها لغزا للعالم ينحنى أمام إعجازها، وتشعرنا دوما بالضآلة. لتأتى أنت وتَصِمُنا جميعا – أنا وقسم الآثار المصرية بالكوليج دى فرانس والجامعة ذاتها – بهذه الكذبة السخيفة، التى لا تصل حتى للمسلة الصلصال الرملي، بجوار قبرى فى مقابر (بيير لاشيز)، أين عقلك يا رجل؟»
تلقف بارتولدى الهجوم الشامبليونى صامتا، وأخذ يمرر يده على تمثاله قائلا بهدوء: «لم أعتقد إنى سأصادف كل هذا الجحود منك عزيزي! بفضل تجسيدى لك هكذا، أصبحت مكتشف الهيروغليفية الوحيد، تصدرت فرنسا مشهد علم المصريات عالميا، وثقت تفوقك وقهرك لأسرار حروف حضارة كاملة، منحت كل فرنسى كنزا من الزهو ودليلا للتفوق، جمدت فى الحجر لحظة سيادة العلم والتنوير والبحث العلمى ولو على رأس ملك! أنت أدرى بأن الصورة بألف كلمة، تمثالى ضمن لك ريادة أبدية، ليس فقط على رأس ملك، ولكن على رأس كل صعب أو مستحيل قد يصادفه أى فرنسى مستقبلا! أم ترانى أخطأت بتنصيبك وحدك بدون دس ملكيك الحارسين حولك؟ (ابن وحشية العراقي) الذى سبقك بـ800 سنة فى فك الهيروغليفية و(يوحنا الشفتشى المصري) الذى علمك القبطية والعربية، وكانا مفتاحك الحقيقى لاستكمال البحث، وتتويج مجهودات من سبقوك كتوماس يانغ البريطاني، والألمانى كارل ريتشارد ليبسيوس، والياسوعى أثناسيوس كيرتشر؟ توقعت امتنانا لانفرادك بالمجد لا هجوما بالنقد، وكفرنسى أنت مدين لفرنسيتك بدعم رؤيتي! صنيعتى كرمت البحث العلمى فى شخصك لقهر الزمن، وأصبحت إلهاما للتفوق ولو على الملوك! رؤيتك شخصية بحتة وفنى عالميا، تصل رسالته لكل زائر ومن يتخذك مثلا يُحتذى! أنت شامخ هنا 145 عاما بفضلى كرمز أسطورى يتلاعب بالعقول، على مشهد من العالم وحتى أحفاد الملك المأسوف عليه! ومع ذلك تأتى الآن لتلومنى لمجرد أن كيانك كله مصر؟ أين عقلك يا رجل؟»
«عفوا يا سادة».. تفاجأ الرجلان بوجودى فى الرؤيا والتفتا لى بتوجس، فجاء صوتى مُعلقا: “النقاش بارع، ولكنه خلط للأوراق التى كشفها الإنترنت منذ عالميتها 1991؟ لولا محرك بحث جوجل وأمثاله، وإتاحتها لنا بثوانٍ تاريخا ووثائق ومقارنات، لما علم العالم مسيو شامبليون، بجهود من سبقوك لدراسة الهيروغليفية! ابن وحشية، جابر بن حيان، ذو النون المصري، أبو القاسم العراقي! (ناهيك عن الأخوة الأجانب الذين تطوع بهم السيد. بارتولدي)، لنتأكد بأنك لست الأول ولا الوحيد، ولكن كصاحب فضل لغلق الدائرة وفتح طريق المعرفة، فلا أشعر بغضاضة من نعتك بمكتشفها، وإن ساعدتنى معلومات الإنترنت على تقييمك بموضوعية، تحترم حقوق من سبقوك وتعتز بعروبتى فى السبق والفهم.
أما أنت سيد. بارتولدي؛ فكل أسبابك الفاخرة لتوريط مسيو شامبليون والسوربون بنكبتك الرخامية فستارٌ أنيق، يخفى عداءك لإسماعيل خديو مصر، لرفضه مشروع تمثالك بمدخل قناة السويس، واستبدالك بفرنسى آخر. لتبدع صنعتك انتقاما فنيا باستغلالك الولع الفرنسى بمصر، بتسخيرك حذاء شامبليون كتاجك على المصريين! ولولا توثيق عدائك وروابطك التاريخية بمصر وخديوها، بكل مواقع الإنترنت والمصادر الفرنسية والعالمية، لأصبح تمثالك توثيقا مؤبدا لتزييف تسيد اكتشاف شامبليون للهيروغليفية، ولأسبابك كسند لفوقية باطلة وعنادا يحتج به من بعدك!
لا أتدخل فى وجهة نظركما، ولكنى كمصرى وأحد أحفاد الملك المأسوف عليه؛ لى حقوق إنسانية فى إنقاذ كرامة رأس جدى المحشور ظلما تحت حذاء مزيف! فى تصحيح رمز حديث مُغرض لتزييف تراث إنسانى عالمي! لى مصلحة فى المحافظة على روابط فرنسية مصرية، يجرحها صنيعتك سيد. بارتولدي! لى حقوق كضحية غبن وامتهان كرامة إنسانية بزعم المناخ الثقافي! لنشر الحقيقة ومواجهة السوربون بإيوائها لفخ مسمم لعلاقات البلدين! لإعلاء علم ابن وحشية وأفضال الشفتشي! لإنقاذ كرامة مصر أمام أبنائها والعالم. أين عقلكما يا سادة فيما تتجادلون فيه؟”.
ران صمت عميق على الرجلين وبادرنى شامبليون مُعقبا: «لا أختلف معك، فكله ثابت وموثق، ولم أنكر فضل الشفتشى أو تعلمى من ابن وحشية! ولكنه هذا البارتولدى الذى زج بى فى انتقامه! هل تعلم بضبطى له متلبسا يوحى لزائر أيرلندي، لرسم الأخ بيل جيتس رائد التقنية، يضع حذاءه فوق رأس جورج واشنطن قائد العالم الحر؟ لم أعد أستغرب نتائج رسائل صنيعته بزعم حرية الإبداع والثقافة، ويا لها من نتائج! بارتولدي.. اترك المصريين قبل إفاقتهم!»
ابتسمت بغموض أقلق الرجلين وقلت مغادرا: «لا تقلق سيدي! فمحاكمة بارتولدى قادمة، تبرئة لك، وإنقاذا لفرنسا!، وقتها قد يجاور مسلة مقبرتك تمثالك بعدالة سوربونية».
* محامى وكاتب مصرى