شامبليون بين أنسنة بارتولدى وإهانة مصر!

شامبليون بين أنسنة بارتولدى وإهانة مصر!
محمد بكري

محمد بكري

8:38 ص, الخميس, 15 يونيو 23

شرُفت بالتعرف على المفكر الكبير د. بهى الدين مرسى بندوتى الأولى (شامبليون مشكلة أم قضية؟)، المعروض أحداثها بمقالى السابق 23/6/11، وشرُفت أكثر بدعوته لى والحاضرين وعلى رأسنا د. وسيم السيسي، لحضور أمسية ثقافية لمكتبة الإسكندرية المقامة ببيت السنارى 16 يونيو، لمناقشة كتابه (تصحيح المسار فى منتصف العمر)، والذى سيتخذ تمثال شامبليون – داعسا بحذائه رأس رمسيس الثانى – كأول تجربة لرسالته القومية (البقاء للإنسانية)، «لتصحيح مفهوم ظنناه لقرنين من الزمان عوارا أخلاقيا»! وحشد سيادته لهذه الأمسية زخما رائعا من أعلام الفكر والفن والثقافة والدين والمجتمع المدني، لمناقشة قوة التغيير التى ينشدها الكتاب الجديد. وحقا إنه لجهد خارق من د. بهى لتجميع هذه الباقة الثرية فكرا وعطاءً فى حب مصر.

وكم أبهجنى وشد عضدى أن ينضم لترسانة مصر فارس جديد للدفاع عن كرامتها المنتزعة، بيد أوجست بارتولدى نحات تمثال العالم الفرنسى شامبليون، «مُستكمل اكتشاف الهيروغليفية وليس مكتشفها الأوحد»! فعلى مدار 27 مقالا من 4 ديسمبر 22، بلورت وأثبت «قضية» حق مصر ضد النحات المذكور، عن مسؤوليته الفنية التقصيرية (بالمخالفة لقانون منع الإساءة والتشهير الفرنسي، وميثاق حقوق النسان، ومبادئ الثورة الفرنسية)، لتعمده إساءة استخدام فنه بعد رفض الخديوى إسماعيل 1869 لتمثاله بمدخل قناة السويس، ونحته انتقاما للتمثال 1875 بوضع الحذاء الشامبليونى على رأس رمز المُلك لإهانة الحضارة المصرية لغرض شخصى وآخر خفي. هذه القضية مستوفاة الإثبات للخطأ الفنى المستمر من النحات، والضرر المصيب لمصر والمصريين، وعلاقة السببية بينهما. ولعل إدارتى لأزمة التمثال وتحويلها لقضية عامة، فيها الحق العام والخاص ثابت، وأضرار الإساءة والإهانة متجذرة ومستعرة بصدور المصريين، ما جعلنى أنشد الدعم من كل المهتمين بالموضوع داخل وخارج مصر (منذ توثيقه 2010 بالسوشيال ميديا والإعلام العالمي، حتى ببعض الجماعات الفنية والثقافية والتاريخية الفرنسية)، وبالتالى فالتوجه العام لأمسية كتاب (تصحيح المسار فى منتصف العمر)، مفترض بها تبنيها ذات الخط أو روافده إثباتا للحق المصرى فى قضية محسومة، يراها المصرى وغيره أن التمثال رمز لترجمة الفوقية والهيمنة الفرنسية على مصر، وتمثيل لأثر فرنسا فى تاريخ مصر وليس تمثيلاً لتاريخ مصر الحقيقي!

من هذا المنطلق؛ أتابع يوميا عطاء وحشد د. بهى ومتابعيه لهذه الأمسية المميزة، آخرها (بوست) على صفحته الرسمية بالفيسبوك 6/13، بلور فيه توجه الندوة لمعالجة محاور محددة هى (سنتحرك معا لرفع وجيعة الإنسانية وتعديل قراءة المهانة التى أصابت الإنسانية فى نحت فنى لتمثال شامبليون وهو يطأ بقدمه رأس ملك مصرى / لا تسعى رسالتنا “لمعاقبة” العمل الفنى الذى أصبح ملكا للثقافة والتاريخ، وإنما نسعى لإعادة قراءة الرمزية فى هذا النحت الفني، فالقائد شامبليون كان عاشقا لمصر، ولم تكن الرمزية وفق الأفهام الفرنسية آنذاك تقصد المهانة، وإنما هو الفهم المتباين لمعنى القوة/ وها هى أول تجربة نسعى فيها لتصحيح مفهوم ظنناه لقرنين من الزمان عوارا أخلاقيا / فمصر رائدة، حضارتها الرقي، والتسامح نهجها، والإنسانية مناخها / وها أنا أتلقى الدعم منهم لاستكمال رسالة البقاء للإنسانية، وسيصل صوتنا للعالم انطلاقا من مصر، وعبر القنوات الرسمية، عبورا بالإليزيه وانتهاء بكل عواصم الفكر أينما وجد الإنسان)!!

وبمطالعتى لرؤية د. بهى “الإنسانية” ومنهجه فى “تغيير المسار”، وجدتها تخلط بين تمثال شامبليون وبين نحّاته المهين بارتولدي! بتعاملها مع الرمز بدون الباعث خلف نحاته، ورسالته المستهدفة بإطار واقعة تاريخية موثقة! لتسعى الأمسية لرفع الوجيعة المصرية بتعديله قراءة المهانة بدلا من إزالتها! واستبدال قضية مصر “بأنسنة” خطأ وإهانة بارتولدى (أى جعلها مسألة إنسانية لا قضية مصرية)، لتكون إعادة القراءة للرمزية فى عاره، محورا لتجربته فى تغيير مسار قضيتنا! هدفها تصحيح مفهومنا لتمثال ظنناه لقرنين من الزمان عوارا أخلاقيا بإهانتنا! لأن رسالته “لا تسعى لمعاقبة” العمل الفنى – التمثال – الذى أصبح ملكا للثقافة والتاريخ؟ فحضارة مصر الرقي، ونهجها التسامح، ومناخها الإنسانية! فلا بأس إذن من رفع الوجيعة بفهمها وقبولها، وتفهم الإهانة بإدراك رمزيتها بمعناها الإنسانى الأوسع، ليفوز البقاء للإنسانية بعدم المساس بطوطم أصبح ملكا للثقافة والتاريخ! (للصدفة البحتة أن هذه هى وجهة النظر الفرنسية منبع مذهب الإنسانية بعصر النهضة!).

قد يكون تصحيح مسار د. بهى بأنسنة تمثال شامبليون وسط هذا الزخم الرائع لأمسيته، مفيدا لبزوغ قضية شامبليون للوعى الجمعى المصري، ولكنه من جهة أخرى سيكون تفريغا للقضية من هويتها المصرية والحق المصرى فى وقف هذا الوجع وإزالة هذه الإهانة لأسباب ثابتة تاريخيا وفنيا ومستنديا. الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، وفى تنوع الدفاع عن القضايا العامة فليتنافس المتنافسون، بشرط وحدة الرؤية والهدف والمصلحة، وهو ما لم أجده فى خطة تصحيح المسار، لاختلاف خط دفاعى بقضية حق مصر ضد بارتولدي، عن خط أنسنة تمثال شامبليون المؤدية لشرعنة إهانة بارتولدى وبقاء عاره منتصبا، بقراءة جديدة لرمزيته تصحح مفهومنا لإهانتنا وبلعها إنسانيا!

لا خلاف حول مصرية القدير د. بهى وفكره النابه لتصحيح مساره بمنتصف العمر، بمحاولته ترقية مشكلة مصرية لقضية إنسانية، ولكن هناك قضايا لا تحتمل التوافقية، أو تبرير النوايا، أو تأويل الرموز، أو النظر للقضية من وجهة نظر الآخر! فالقضايا التاريخية، والكرامة والعزة الوطنية (خصوصا إذا مست الحضارة المصرية القديمة)، لا تحتمل تصحيح مسار الغضب الوطنى بإقناعه لتغيير همجية انفعاله بترقيته إنسانيا! أو مسح الإساءة والإهانة بهوية الرقى والتسامح والفهم! هذا المسار قد يكون له وجاهته فى أى قضية أخرى، لا تمس مغزى ورسالة دعس رأس ملك مصرى مجذوذ تحت حذاء فرنسي، يفجر حزمة أضرار؛ أقلها إفساد صورة التراث الثقافى المصري، وتدنى مستوى الوعى الثقافى للمجتمع، وتقزيم قيمة تراث مصر القديم ونهضتها الحديثة، بجدلية الجمهور العالمى لقبولنا استمرار دعس ملك مصرى تليد تحت حذاء فرنسى حديث، فى زمن لم يكن لفرنسا وجود أصلا! وتعود لنا الآن بإنسانية مُبدعة لتُفهمنا حكمة إهانتنا، برمز محمى بتاريخهم وسماحتنا انتصارا لإنسانية لا تنطبق على قضيتنا!

كل التقدير لأمسية د. بهى الدين مرسى وصحبه الأجلاء لتصحيح مساره بمنتصف العمر، وكل الدعم لجهوده لتنمية الوعى الجمعى، ولكن بعيدا عن محاولات أنسنة وتدويل قضية مصرية حقيقة، تحتاج لدعم وجودها ونفاذه، لا تفريغها بشرعنة هوانها! وهو ما لم أجد معه جرسا لقضيتى بمحاور الأمسية، قد يقرع مسامع الحضور، بعدالتها وحق مصر فى رفع الحذاء الشامبليوني، وسط أنسنة خالد الإهانة بارتولدى وأحفاده.

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]