نتج عن مقتل القاصر الجزائرى/ الفرنسى نائل المرزوقى بيد الشرطة الفرنسية، خارج الشروط القانونية لاستخدام الشرطة للرصاص الحى، زخمًا من الأحداث والاضطرابات والفعاليات المُعبرة عن غضب الجزائريين والعرب بفرنسا جراء العنصرية الفرنسية. وفى رأى فرانسوا أسيلينو، رئيس حزب الاتحاد الجمهورى الشعبى الفرنسي، بحديثه لوكالة «سبوتنيك» الروسية أنّ «عدم رغبة السكان المسلمين فى الاندماج، والتمايز الطائفى، وتخلى الحكومة عن مناطق الضواحي، كانت جميعها عوامل مهمة فى الاضطرابات الحالية فى البلاد».
وفى حديث افتراضى لصديق جزائرى بباريس، قال «لقد أوحت لى مقالاتك عن وجع إهانة مصر والمصريين من الحذاء الشامبليونى على رأس ملككم، بفكرة جادة شاركتها مع فنان تشكيلى جزائرى! سنقوم بعمل تمثال ضخم بالعاصمة دزاير أمام مقر السفارة الفرنسية، يمثل الشهيد نائل يضع حذاءه على خوذة لرأس قاتله الشرطى الفرنسي. سيكون هذا التمثال أبلغ رد جزائرى على العنصرية الفرنسية التى عانيناها منذ استعمارها فى 1830. فالتمثال سيكون جزائريًا الإبداع والفن والصناعة بالكامل، بعيدًا عن يد فرنسا، كمحاولة حديثة لرد كرامتنا المرصصة فرنسيا”. فوجئت بالوحى الجزائري، وكيف أوحى الوجع المصرى القديم بحل جزائرى حديث! المفاجأة الأكبر دخول سيدة فرنسية لغرفة الشات لتهاجم هذا الوحى الجريء بقولها “هذا ليس إبداعًا أو فنًا مسيو! هذه عنصرية فجة لن تسكت عليها فرنسا، وستجبركم على محاكمة صانع التمثال وصاحب فكرته! هذه فرنسا وليست مصر. غير مقبول أبدًا أن تستوحى انتقامك العنصرى من تمثال خاص جدًا لفرنسا والثقافة الفرنسية وعلاقتها بمصر القديمة! سيكون رد الفعل داخل فرنسا عنيفًا جدًا لأى رمز يحط من كرامتها أو رموز نظامها والسخرية منها، قبل تنفيذ وحيك المريض مسيو، فكر فى ألوف الجزائريين والمغاربة والتوانسة، الذين سيعانون من المطرقة الفرنسية ردا على سخريتكم من رمز سلطتها.”
ساد صمت بين مشتركى المنتدى للحظات، لأتساءل ببراءة “عفوا ما قصدك سيدتى بقولك – هذه فرنسا وليست مصر؟ وما الخصوصية التى تجعلنا نصمت ولا نجادل حتى فى وجع قديم، لمجرد وجهة نظر فرنسية، لا يقل وجعها عما أصاب الشاب نائل، ومطلوب منا تفهمها، كإبداع فرنسى وثقافة مختلفة وروابط تحرصون عليها؟”. عقب الصديق الجزائرى فورًا “لا تأخذ الموضوع بمحمل شخصى صديقي، أنا فقط مهتم بفكرة تمثال شامبليون، وليس موقف مصر والمصريين منه، ولا أعنى الإساءة مطلقًا وتعقيب المدام يخصها فلا تورطنى فى حديث مشترك!”. عادت الفرنسية لتقول “مسيو؛ لا تخلط الأوراق من فضلك! أنا ردى على فكرتك الانتقامية المهينة لرمز النظام الفرنسى فى شرطتها. غير مقبول أبدًا أن تضع الجزائر حذاءها على رأس النظام الفرنسي، فهذه فانتازيا عنصرية فى كل القوانين! أما تمثال شامبليون فاستوحاه نحاته من أسطورة أوديب وأبو الهول، دلالة أن بفك شامبليون لرموز الهيروغليفية، قهر مغاليق اللغة مفتاح الحضارة المصرية القديمة، ولا توجد أبدًا أى إهانة أو احتقار فرنسى لمصر، معشوقة فرنسا والفرنسيين – المقارنة ظالمة وفى غير محلها، ومردود عليها بالقوانين الفرنسية والدولية، ولو ستكون صناعة التمثال وموقعه بالجزائر”.
عقبت قائلًا بسرعة “مدام؛ ما تقوليه عنصرية ثقافية واضحة! قد يكون تفسيرك مقبولًا لو حذاء شامبليون وضع على حجر رشيد بدلًا من رأس رمسيس الثاني! أما استبدال محل الاكتشاف وباب اللغة برأس ملك مصرى رمز النظام والمُلك، فهذا يعطى لمصر نفس الحق الفرنسى فى الانتفاض لكرامتها، لمجرد وحى تمثال عن واقعة دموية حقيقية، خاصة إذا استندت لتاريخ فرنسى طويل من العنصرية المحلية والثقافية والاستعمارية. أنا لا أقارن بين التمثالين أو مصدر وحيهما، ولكن أناقش رد الفعل لوجع الكرامة والإساءة لرموز النظام والحكم والدولة كلها.. رأس الشرطى الفرنسى ورأس الملك المصري”.
ساد الصمت من جديد ليخترقه تعليق صوت مغربى انضم لحديث المنتدى قائلا “بهدوء مسيوز ايه مدام! نحن جميعًا متحضرون كفاية لنعلم أن تمثال شامبليون بالكوليج دى فرانس أثر من 150 سنة تقريبًا، له مكانته الفرنسية ولم أسمع أن مصر هاجمته أو طلبت إزالته رسميًا، ثم أنه يستند لحقيقة أن شامبليون صاحب فضل على علم المصريات بالكامل، وفعلًا الثقافة الفرنسية مختلفة عنا جدًا نحن العرب، وطالما مصر والمصريين لم يعترضوا فهم موافقون على وجوده هكذا، فالعلاقات بين البلدين معروفة وقوية للآن، أما فكرة تمثالك فأعتقد أنها صورة أخرى من خلافات الجزائر مع جيرانها ولو بالباطل، إلا لو مستعدين لمليون شهيد جديد”. انطلقت كلمات صديقى الجزائرى كالرصاص عبر الأثير فقال “لا تكن ملكيًا أكثر من الملك يا جارى الجائر، ولن أدعك تفسد قيمة هذه المناقشة لمجرد انتمائك لماما فرانس! لا أحد يجهل أو ينكر ما فعلته فرنسا بالجزائر، ولا أثر الجزائريين فى الاقتصاد الفرنسي، ولا عنصريتهم ضدنا، وآخرها رصاصة فى رأس رمز شبابنا والجزائر الحديثة! إن (تمثال الشهيد نائل) سيكون رد الاعتبار المؤقت للجزائر، فدوام الحال من المحال. أما شامبليون المصري، فقضية مصرية أعمق من رصاصتنا، لأن نحات شامبليون يحيا فى جيل كامل من الفرنسيين، أورثهم العنصرية الثقافية والفنية والمحلية، التى رسخت فى لا شعورهم، ونضحت عليهم حتى الشرطة والحزب الجمهورى والإسلاموفوبيا وكثير من الكتاب والفنانين! هذه ليست كلماتى أو آرائي، ولكنها آراء العالم الحر الذى باعت له الثورة الفرنسية مبادئها من حرية وإخاء ومساواة، وتناقضها على مر تاريخها بالاستعمار والعنصرية التى أعلنت الأمم المتحدة تخوفها منها، وما سيكون تمثال الشهيد نائل إلا توثيقا واقعيا لرفض هذا التناقض”.
عند هذا الحد شعرت بتآين الحديث الافتراضي، فتدخلت قائلًا “ تمهل صديقي، فالقضية أكبر وأعمق من تماثيل ووحي! فتعليقات المدام فرنسية محضة، ولا أحد ينكر الوجع الجزائرى أو يبسط امتهان الكرامة المصرية، ولو بتفاسير فرنسية، ولكن محور قضية تمثال شامبليون عنصرية ثقافية ومسئولية فنية تقصيرية على النحات شخصيًّا، لرضاعته العنصرية الفنية من جهة وانتقامه من خديوى مصر ثانيًا، أما الاستياء والرفض المصرى له فموثق من 2010، وإذا كان الحذاء والرصاصة مسا رأس الكرامة المصرية والجزائرية، فإن استرجاعها فن من فنون حرب الوعى الجمعي، التى يجب أن تستيقظ فى مصر وفرنسا والمغرب العربي، ولكن هذا موضوع آخر له حديث جديد”.
عند هذا الحد خرجت من الافتراض للواقع، وانطلقت أدونه قبل النسيان، فآفة حارتنا هى النسيان.
* محامى وكاتب مصرى