شاعر الغزل عمر بن أبى ربيعة (4)

رجائى عطية

10:37 ص, الثلاثاء, 2 أبريل 19

رجائى عطية

رجائى عطية

10:37 ص, الثلاثاء, 2 أبريل 19

بقلم: رجائى عطية

لا جرم إذن ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ أن يكون من تمام مروءة السرى يومئذ، أن يعيش للغزل، وأن يسعى ولا يأنف من الوساطة فيه. وقد روى أن «ابن أبى عتيق» ـ وهو من سلالة أبى بكر الصديق ـ كان يتشفع لعمر بن أبى ربيعة لدى صديقته «الثريا» إذا ما حدث صدع بينهما.

سمع أن ابن أبى ربيعة أنشد أبياتًا يقول منها:
من رسولى إلى الثريا فإنى ضقت ذرعًا بهجرها والكتاب
فصرح ابن أبى عتيق بأنه أراده بهذا النداء، وشد الرحال لفوره إلى مكة، وطرق على «عمر» بابه ليلاً، وسلم عليه دون أن ينزل عن راحلته، وصاحبه إلى الطائف حيث قال للثريا: «هذا عمر قد جشمنى السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفًا لك بذنب لم يجنه، معتذرا من إساءته إليك، فدعينى من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون».

ولم ينصرف عائدًا إلى مكة ثم المدينة، إلاَّ وقد تم الصلح على أتم ما يكون.

فالعصر الذى يكون هذا هو شأن الغزل فيه عند علمائه وأمرائه وأصحاب المروءة فيه، لا غرابة فى أن يكون الغزل حاجة من حاجاته التي لا يُشبع منها، ويكون شعر الشاعر الواحد قليلا فى التعبير عن هذه الحاجة التى تعم كل بنيه.

يقول الأستاذ العقاد:
«وقد كانوا يحسون حاجتهم إلى مثل ذلك الشاعر ويقولون: إنهم يحسونها ويفتقدونها، فلما مات عمر بن أبى ربيعة حزنت عليه نساء مكة، وكانت إحداهن بالشام فبكت وجعلت تقول: من لأباطح مكة ؟ ومن يمدح نساءها ويصف محاسنهن ؟ وعزاها بعضهم فقال: إن فتى من ولد عثمان بن عفان قد نشأ على طريقته وأنشدها بعض كلامه، فتسلت وقالت: هذا أجل عوض، وأفضل خلف، فالحمد لله الذى خلف على حرمه وأمته مثل هذا.

«وجاء فى أخبار كثير بن عبد الرحمن الشاعرـ أنه مات وعكرمة مولى ابن عباس فى يوم واحد. فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس، وغلب النساء على جنازة كثير يبكينه ويذكرن صاحبته عزَة فى ندبتهن له. وأقبل محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب يشق طريقه ويضرب النادبات بكمه قائلا: تنحين يا صويحبات يوسف ! فتصدت له امرأة منهن تقول: يا ابن رسول الله لقد صدقت ؛ إنا لصويحبات يوسف وقد كنَّا له خيرًا منكم له. فأوصى بعض مواليه أن يحتفظ بها حتى يجيئه بها بعد انصرافه، ثم جىء بتلك المرأة كأنها شرارة النار، كما قال راوى القصة، فسألها محمد بن على: أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا ؟ قالت: نعم، تؤمننى غضبك يا ابن رسول الله ؟ قال: أنت آمنة من غضبي فأبينى. قالت: نحن يا ابن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه فى الجب وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه فى السجن، فأينا كان عليه أحنى وبه أرأف ؟ فقال محمد: لله درك ! ولن تغالب امرأة إلا غلبت. ثم سألها: ألك بعل ؟ فأجابته: لى من الرجال من أنا بعله ! قال أبو جعفر: صدقت ! مثلك من تملك بعلها ولا يملكها».


ويخلص الأستاذ العقاد إلى أنه إذا كان هذا حال العصر، فليس عجيبًا أن تستغرق هذه الأحاديث شاعرًا واحدًا، وإنما العجيب ـ فيما يقول ـ أن ينفرد ابن أبى ربيعة بطريقته وديوانه فى ذلك العصر ولا يكثر معه الأنداد والنظراء، ولكل منهم مثل ذلك الديوان.

وظنى أن الأستاذ العقاد وضع يده على مشكلة العجب فى هذا «الانفراد»، فقد كان فى العصر شعراء كثيرون لم يتجهوا إلى الغزل ناهيك بالإسراف فيه والانقطاع له حتى يشكل ديوان الشاعر كله إلاَّ القليل. فهذه ظاهرة فى ابن أبى ربيعة لا أظن أن حال العصر يفسرها، وإلاَّ لبدت ـ قليلاً أو كثيرًا ـ في غيره من الشعراء.

ومن ثم أراد الأستاذ العقاد أن يضع جوابًا لذلك، فأضاف أن الرجوع إلى الحقيقة برمتها قد يفسر هذا العجب.

فابن أبى ربيعة ـ فيما يرى ـ لم يكن شاعر الغزل فى العصر كله، ولكنه كان فى الحقيقة شاعر «الطبقة الوادعة المترفة» من أبناء وبنات ذلك العصر دون غيرها، وأفراد هذه الطبقة بالعشرات ولا يتجاوزونها إلى المئات، وأنه وإن كان من شعرائها من يساويه فى الحسب والجاه كالحارث بن خالد أو العرجى سليل عثمان بن عفان، إلاَّ أنهم كان لهم شواغل أخرى تصرفهم عن الغزل ومصاحبة الحسان. كان الحارث واليًا لمكة، وكان العرجى يشهد وقائع بأرض الروم، وكانا كلاهما ـ فضلاً عن ذلك ـ دون عمر فى الملكة الشعرية والطبيعة الغزلية.

وهذا يسلسنا إلى الطبيعة الخاصة بعمر بن أبى ربيعة كما سوف نرى.
[email protected]
www. ragai2009.com