شاعر الغزل عمر بن أبى ربيعة (2)

رجائى عطية

8:46 ص, الأحد, 31 مارس 19

رجائى عطية

رجائى عطية

8:46 ص, الأحد, 31 مارس 19

رجائي عطية:

رنشأ عمر فى النعمة على وسامة فى الشكل، وفراغ من الأعباء.. ومن حوله الجوارى والقيان يهيئون له من اللهو ما يرضى الفتى الفارغ من متاعب الحياة. وهو بذلك تام الأداة للغزل ومصاحبة الحسان، وأقرب الفتيان من أبناء الحجاز إلى تمثيل بيئته فى مجتمع الحضارة اليمنية والحجازية فى القرن الأول للهجرة.

وتواترت الأنباء عن مطارحاته الغرامية أيام الشباب، ويدل ديوانه على أنه كان منقطعًا لأحاديث الظريفات، وينتظر أيام الحج ليلقى الحسان القادمات من العراق والشام واليمن، أو يتعرض لهن فيتجنبنه حينًا ويزجرنه حينًا. وفى ذلك يقول:
وكم من قتيل لا يبُاء به دم
ومن غَلق رهنًا إذا ضمه منى
وكم مالىء عينه من شىء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
فلم أر كالتجمير منظر ناظر
ولا كليالى الحج يفتن ذا الهوى

(التجمير هو رمى الجمرات)

إلاَّ أن أناسًا من أصحابه، فيما يضيف الأستاذ العقاد، كانوا يعتقدون أنه على عادة الشعراء الذى يقولون ما لا يفعلون. وسأله ابن أبى عتيق وهو أقربهم إليه : يا عمر !
ألم تخبرنى أنك ما أتيت حرامًا قط ؟ قال : بلى. فاستخبره عن قوله:

وما نلت منها محرمًا غير أننا كلانا من الثوب المورد لابس
فأجابه: والله لأخبرنك. خرجت أريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشعب أخذتنا السماء فكرهت أن يُرى بثيابها بلل المطر فيقال لها : ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه ؟ فأمرت غلمانى فسترونا بكساء خزّ كان علىّ، وهو الثوب المورّد المشار إليه.
وقال الزبير بن بكار: «لم يذهب على أحد من الرواة أن عمر كان عفيفًا يصف ويقف، ويحوم ولا يرد».

وأقسم هو مرة أنه ما اطلع على جسد حرام.

وهناك آخرون يسلمون بغوايته أيام الشباب ويقولون إنه تاب وأقلع بعد المشيب.

«واتفقت أقوال كثيرة ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ على نسكه فى مشيبه وإعراضه عما كان يُقبل عليه فى شبابه، فكان يلوم من يحدث امرأة فى الطواف، وبلغ من إعراضه عن الغزل أنه أقسم لا ينظمن بيتًا إلاَّ أعتق به عبدًا أو جارية. واستنشده الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة حجه فاعتذر إليه وقال : يا أمير المؤمنين ! أنا شيخ كبير، وقد تركت الشعر، ولى غلامان هما عندى بمنزلة الولد، وهما يرويان ما قلت، وهما لك. فأنشداه ولم يزالا ينشدانه حتى قام وقد أجزل صلته ورد الغلامين إليه.

«وقد يصح بعض هذا ولا غرابة فيه، فمن المستبعد جدًّا أن يكون عمر قد فعل كل ما ادعاه وإن كان قد اشتهاه، ومن الجائز أنه تاب وأخلص فى التوبة بعد المشيب. فالتوبة ليست بالأمر النادر بعد فوات الشباب، وعمر مهيّأ لها بشىء فى طبيعة أسرته كما يظهر من سرية أخيه الحارث وولده جوان ؟»

«فالتوبة الدينية غير بعيدة من مزاج ابن أبى ربيعة الذى تتجلى فيه آثار الوراثة وهى لا تغيب كل المغيب فى حياة إنسان، وما زال معهودًا بين كثير من الأسر التى تضطرب فيها الحساسية العصبية أن يظهر فيها التقاة كما يظهر فيها الغواة، لأن الطرفين يلتقيان فى خليقة «التأثر» على تناقض ما يتأثران به بعض الأحيان، وربما شوهد أن الغوى ينقلب إلى التقوى، وأن التقى ينقلب إلى الغواية إذا اعتراهما طارئ تختلف به وجهة التأثير».
على أن المرء قد يتوب عن عمل يعمله، ولا يتوب فيما يرى الأستاذ العقاد ـ عن مزاج طبع عليه.

ولذلك يصدق الأستاذ العقاد أن عمر قد تاب، ويصدق أنه بقى إلى ختام حياته يعاوده الحنين إلى صبوات الشباب. فهذا المزاج فى اللهو والضحك لا يتوب منه من طبع عليه.

ويختم الأستاذ العقاد هذا الفصل، بأنه ينظر إلى هذا المزاج من وحى الشاعر فى شعره، وأن دلالته لا تتغير من هذه الوجهة سواء صدق الشاعر فى كل ما قاله أو فى بعض ما قال، وسواء تاب عن صدق أو خادع نفسه وصحبه فيما أعلنه من توبة.

[email protected]
www. ragai2009.com