بقلم: رجائى عطية
صناعته
يرى الأستاذ العقاد أن عمر بن أبى ربيعة، من أحسن النماذج الأدبية التى يتجلى فيها الفرق بين الإمامة فى الطريقة الشعرية، والإمامة فى الصناعة الشعرية.
فقد يكون الشاعر أصلح الناس لتمثيل طريقة أو مدرسة من مدارس الشعراء، ولكنه لا يكون مع ذلك إمامًا فى صناعة النظم وصياغة القصيد.
وعمر بن أبى ربيعة ــ بمولده ومزاجه ومعيشته وبيئته ــ أصلح من يمثل شعراء عصره المشهورين بالغزل فى أكثر من إمراة واحدة وبالولع فى مجالسة النساء، ولكنه فى رأى الأستاذ العقاد لم يكن أفضلهم نظمًا ولا أبرعهم قصيدًا، ولا أقدرهم صناعة، برغم إجادته الموفقة فى أبيات ومقطوعات.
وقد كثرت الشهادات له فى عصره، وكان شيوخ قريش لا يعدلون بشعره شعرًا قط، وقد يستحسنون من شعره ما يستقبحه غيرهم.
وكان البعض يزعم أن العرب وإن أقرت لقريش بالتقدم عليها فى كل شىء، إلاَّ أنهم استثنوا الشعر، حتى إذا ما ظهر عمر بن أبى ربيعة أقر العرب لها بالشعر ولم ينازعونها شيئًا.
وروى عن «نصيب» أنه تكلم عن عمر بن أبى ربيعة فقال: «هو أوصفنا لربات الحجال».
وروى عن الفرزدق أنه سمع طرفًا من نسيبه فقال: «هذا الذى كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار، ووقع هذا عليه».
وأنه اجتمع به فما زال عمر ينشده وهو يطرب ويستزيد حتى أنشده القصيدة التى يقول فيها:
فقمن لكى يخليننا فترقرقت مدامع عينيها وظلت تدفّق
وقالت: أما ترحمنى ! لا تدعنى لدى غزل جم الصبابة يخرُق
فقلن اسكتى عنا فلست مطاعة وخلك منا ــ فاعلمى ــ بك أرفق
فصاح الفرزدق: أنت والله يا أبا الخطاب أغزل الناس.
وكان جرير على ما زعم الرواة يسمع شعر ابن أبى ربيعة فيقول: «هذا شعر تهامى إذا أنجد وجد البرد» فأنشدوه يومًا من كلامه:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيضحى، وأما بالعشى فيخصر
قليلا على ظهر المطية ظله سوى ما نفى عنه الرداء المحبّر
وأعجبها من عيشها ظل غرفة وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شىء يهمها فليست لشىء آخر الليل تسهر
فقال: ما زال هذا القرشى يهذى حتى قال الشعر وأنشده مرة من كلامه:
سائَلا الربع بالبَلىّ وقولا هجت شوقًا لى الغداة طويلا
أين حى حلّوك إذ أنت محفو ف بهم آهل أراك جميلا
قال ساروا فأمعنوا واستقلوا وبرغمى لو استطعت سبيلا
سئمونا وما سئمنا مقامًا وأحبوا دماثة وسهولا
( البلىّ أسم تل صغير )
فقال جرير: «إن هذا الذى كنا ندور عليه فأخطأناه وأصابه هذا القرشى».
ومما نُسب إلى جرير أيضًا أن رجلا من أبناء المدينة استنشده فلم يجبه وقال: «إنكم يا أهل المدينة يعجبكم النسيب، وإن أنسب الناس المخزومى (أى عمر بن أبى ربيعة)».
وسئل حماد الراوية عن شعره فقال: «ذلك الفستق المقشر !».
إلاَّ أن هذه الشهادات وأمثالها لا تدل فى نظر الأستاذ العقاد إلاَّ على شىءٍ واحد لا تتعداه. وهو شهرة ابن أبى ربيعة بالنسيب بين أبناء عصره، ولكنها لا تصمد للمناقشة فى معرض النقد الصحيح. وأول ذلك ما روى عن فحول الشعراء من معاصريه كجرير والفرزدق ونصيب، لأن الشعر الذى زعموا أنه أرغمهم على الشهادة له وتفضيله، ليس مما يرغم المكابر ولا المنافس، ولا المنصف الخالى من الغرض.
ويساوى هذه المجاملة فى قيمة شعره، القول بأن العرب كانت تنكر الشعر على قريش حتى ظهر ابن أبى ربيعة فاعترفت لهم به وكفت عن المنازعة !
فأمثال هذه الشهادات لا تعدو أن تكون كلامًا يقال ولا محصل له إلاَّ أن الشاعر مشهور مشهود له بالتفوق فى بابه بين جمهرة عارفيه، ومن ثم يجب الرجوع إلى الشواهد عند تقدير هذه الشهادات وتقويمها بما يثبت لها من قيمة صحيحة.
ويرى الأستاذ العقاد أن محصل هذه القيمة كما تدل عليه الشواهد من أقوال الرجل وملكاته ــ أنه كان بمولده ومزاجه ومعيشته وبيئته وشارته ــ أصلح الشعراء فى عصره لإمامة هذه الطريقة التى فرغ لها وتقدم فيها، وأنه يأتى بالروائع التى تجرى مجرى الأمثال ولكنه لا يبلغ فى الصناعة مبلغ الإمامة بين الشعراء، لما يبدو عليه فى أكثر كلامه من الفتور والإعياء .
[email protected]
www. ragai2009.com