شارع المعز..المذل!

محمد بكري

9:58 ص, الأثنين, 29 مارس 21

محمد بكري

محمد بكري

9:58 ص, الأثنين, 29 مارس 21

يعتبر شارع المُعز لدين الله الفاطمى رمزا كبيرا من رموز تحول وسيادة مصر (كحقبة زمنية لابتعاثها قلبا للعالم الإسلامى، كعلاقة السياسة بالدين، نظام الحكم، فن معمارى، وتأثيرات عميقة دينيا وثقافيا واجتماعيا العديد منها مستمر حتى الآن).

شهدت مصر قبل الفاطميين زخما من الضعف والأزمات الاقتصادية والسياسية الداخلية، لضعف الدولة العباسية ونفوذ البوهيين الشيعة ووفاة كافور الإخشيد وعجز أبى الفضل بن الفرات عن مكافحة الغلاء أو رد الدهماء، فكادت مصر تذبل على يد الفتن.

ظهور الخليفة المُعز لدين الله فى حياة مصر بدعوة قائده الفاتح جوهر الصقلى، حوّل مصر فى 3 سنوات من 972م لقاعدة صدت بعدها المد الصليبى وهجمات المغول والقرامطة، وأبرزت للعالم الإسلامى دورها الوسطى كقلب الدفاع فكرا وثقافة ومقدرة. ارتبط المعز ببناء القاهرة وجامع الأزهر والتوسع السياسى لتشمل سيطرتها الشام والحجاز وبلاد المغرب حتى الأطلنطى، بناء أعظم أسطول بحرى فاق أسطول بيزنطة، توافق كامل مع مسيحيى مصر.

ارتبط العهد الفاطمى بتفاصيل الفن والجمال والثراء والترجمة والتأليف واقتناء الكتب والتراجم وتشجيع العلم، حتى التركيبة الاجتماعية (من مصريين سنة وشيعة ومسيحيين ويهود، وأتراك وأفارقة وسودانيين) استطاع وعيها الجمعى بفضل نمط الحياة الفاطمية، أن يساعد الدولة الفاطمية فى صد الأخطار الخارجية.

بقى من الدولة الفاطمية عدة تقاليد وآثار معمارية، أهمها شارع المعز، المُصنف عالميا كأقدم شارع بعمر 1044 سنة وحاضنا لـ33 أثرا متنوعا (مساجد، قصور، أسبلة، مدارس، مستشفيات، كتاتيب). بقى الشارع لأجيال عديدة محطا لأنظار العالم والمصريين من المفكرين والأدباء، يوحى لهم بعبق التاريخ وأصالته ومعنى مصر قاهرة المغول والصليبيين، أو كما قال نجيب محفوظ (شارع المعز يحسسك بمصر بداخلك)، ولجيلى فشارع المُعز المُلهم للعديد من الأفكار والحلول والرؤى والمناقشات والمصالحات. امتازت مصر المُعز حتى بدايات القرن 21 بانسجام الفن المعمارى القديم مع سكانه وشاغليه المعاصرين، فانتشر بها صناع النحاس والصدف والفضة ومنتجات خان الخليلى والكتب والأنتيكات والخيامية والمقاهى والأكلات الشعبية، وتدخلت الدولة بحملة نشطة لترميم وتجميل وإنارة الشارع ليكون قبلة عالمية لمحبى الآثار و.. مصر.

كان الجو العام للشارع يستقبل زواره المصريين والأجانب ويدخل بهم لعالم من العز النفسى والبصرى، تصل بهم لحالة من نوستالجيا الروح، فتأخذ بيد خيالهم لسموات الزمن الجميل وعبق واحترام التاريخ، ويزودهم بجرعات مدد روحى وثقافى، تنشع به حوائط المكان وطرقاته وأبنيته وابتسامات وجوه أهله. كان التوازن المعمارى بين آثار المكان وأنشطة قاطنيه، يحلق للعين ليرتقى للفكر بدون إزعاج ويكون الخلفية الموسيقية غير المنظورة، التى تعزفها خطواتنا على الأرضية البازلت، فنعود من تمشيتنا مشحونين بعبق التاريخ وأحاديث المعاصرة .. فكنا نعود بالعز من شارع المُعز.

من أسبوعين ـ وبعد انقطاع فترة بسبب جائحة كورونا ـ رغبت وضيف أجنبى أن نشحن خيالنا بذكريات مُعزّية، ولكن للأسف كان الوجع ثالثنا! اختفت معظم محلات وحوانيت الأنشطة والصناعات التقليدية القديمة، المقاهى الشهيرة، أوجه المُعمرين! غزت محلات الدباديب واللعب الإلكترونية والموبايلات الشارع! احتلت محلات الفطير والكشرى الواجهات، الأضواء الفسفورية للمنتجات الصينية للعب الأطفال وإكسسوارات البنات والعطور والبراندات المقلدة، تداخلت مع ألوان كشافات وزارة الثقافة على حوائط المبانى العتيقة فأخرستها!

للأسف أقحمتنا حالة معز 2021، بحالة من مذلة النفس لفقر الحال والحاجة والذوق، لانسحاب عز المعز من نوستالجيا الروح! لم يعلق ضيفى إلا على مسخ وجود التقليد بحضرة الأصيل! وسألنى بدهشة (هل نضبت الحياة بالمعز لتصل لبيع الأصيل، بسبب كورونا ويأس السياحة؟ هل تعرش الغث على السمين؟ لم أحضر معك لمشاهدة دباديبكم أو أتعطر بتجارة متسلقة! أين ما وعدتنى به، أين مُعزكم؟).

استمرت خطواتنا قدما بقدم مع النقد والتألم لحال مصر المُعز، وأنا أبرر له بالحالة الاقتصادية العالمية وحرية الملكية الفردية وتأثير كورونا إلخ، ولكن صدمة فرض فجاجة الذوق والمال بقلب التاريخ، فاقت أى حُجة .. وكانت أكبر من مصر كافور الإخشيدى أو حتى بن الفرات!

لم يرحم ضيفى المزعج حالتى وقلبى المتوجع بنوستالجيته، واستمر معلقا (كل تبريراتك لا تتفق مع محاولات العز المصرى المعاصرة، للبناء والتعمير والتسليح والمتحف المفتوح واستعادة مصر لمركز القلب! أين المسؤولون عن التاريخ والجمال والسياحة بمصر من ذبول الشارع المُذل؟ أين وعى أبناء وأحفاد المحلات القديمة المقذوفة لآتون صناعة الجهل والمسخ والتسطيح؟ شارع عمره ألف عام تباع فيه إكسسوارات صينية وألعاب ودُمى ومراجيح كهربائية!

أعلم أن مكانا بهذه العراقة أسعار محلاته أو إيجاراتها خيالية، فهل المعروض سيحقق عائدها؟ لمصلحة من مجاورة القبح للجمال بزعم الكسب والفاقة؟ هذه ندوب وجروح على وجه المُعز وتاريخه، ستجعل أثاره تفقد النطق بعز التاريخ ولا تبوح بوحى المكان، ولن أستغرب يوما لو طالب قرامطة العصر بهدم جدار مدرسة السلطان برقوق لتوسعة نشاط منتجات صينية! أذل الحرص أعناق التاريخ، ولكن لم يتركها المُعز هكذا ولن تدوم هكذا).

قفلنا من جولتنا عائدين، تاركين أضواء ودباديب وعرائس وشخاليل وفطائر المُعز تنظر لنا بتحدي! وعلى رأس الشارع حفنة عيون تلتهم باقى الحوائط والدكاكين المكافحة للبقاء!
وامُعزااه!

  • محامى وكاتب مصرى

[email protected]