توجهت الدولة المصرية نحو توطين الصناعة ووضعها على رأس أولوياتها، من خلال السعى بأن تكون مصر مركزا للعديد من الصناعات ذات القيمة المضافة العالية القادرة على المنافسة فى الأسواق الإقليمية والعالمية
فى ظل الأزمات الكبيرة العالمية الكبرى بداية من جائحة كورونا واشتعال الحرب الأوكرانية الروسية، واضطراب سلاسل الإنتاج والتوريد بشكل عام فى العالم أجمع، وأمام هذا الواقع توجهت الدولة المصرية نحو توطين الصناعة ووضعها على رأس أولوياتها، من خلال السعى بأن تكون مصر مركزا للعديد من الصناعات ذات القيمة المضافة العالية القادرة على المنافسة فى الأسواق الإقليمية والعالمية.
ويحتاج ذلك التوجه إلى دراسة التجارب الإقليمية الناجحة فى هذا المجال لاستخلاص نهج إستراتيجى جديد للشراكة مع القطاع الخاص يساهم فى خلق بيئة جاذبة للاستثمار الصناعى فى مختلف محافظات الجمهورية، من خلال إنشاء المجمعات الصناعية المتنوعة والمتكاملة، باعتبارها إحدى الركائز الأساسية لدعم الصناعة المحلية، وتشجيع وجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية فى مختلف القطاعات.
وأشير هنا إلى التجربة المغربية والتى اعتمدت على إستراتيجية المناطق الصناعية المندمجة والمتكاملة بهدف بلورة نموذج جديد لتطوير المجمعات الصناعية المستدامة وتأهيل مناطق صناعية قائمة، ترتكز على تلبية احتياجات السوق وتشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص والاستدامة البيئية والاجتماعية.
وقد تم تفعيل هذا النموذج بشكل تجريبى على مستوى ثلاث مناطق صناعية تتواجد بجهات (الدار البيضاء سطات، وببوزنيقة، وحد السوالم)، كما تم استحداث منطقة صناعية بساحل لخيايطة، وذلك وفق المنهجية الجديدة، وقد تم اختيار المواقع التى ستحتضن هذه المناطق الصناعية بناء على مجموعة من المعايير، من أهمها (الطلب، والأثر الاقتصادي، والجدوى المالية، والمساحة الممكن إتاحتها، وانتفاء المخاطر الكبرى) الأمر الذى يؤكد الاهتمام المتزايد للمغرب بتوسيع خارطة المدن الصناعية باعتبارها الحاضنات الأساسية لدعم مناخ الأعمال والاستثمار من خلال تفعيل الخطط المتعلقة بدعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص ولتعظيم عوائد الاستثمارات، التى ستتدفق على تلك المناطق.
شرعت المملكة المغربية وفق تلك الإستراتيجية فى إتاحة نموذج جديد من الفضاءات الصناعية (المصطلح المغربى الدارج للمناطق الصناعية) تأخذ بعين الاعتبار رهان التنافسية الدولية والإقليمية وتستجيب لمتطلبات المستثمرين الدوليين وترتكز بالأساس على الشراكة بين القطاع العام والخاص وذلك بهدف تزويد السوق بمساحات وآفاق جديدة ومختلفة من حيث الوظيفة والخصائص لمختلف القطاعات الاستثمارية تعمل كحاضنات ومشاتل للمقاولات ومناطق للتنشيط الاقتصادى ومجمعات صناعية متطورة ومناطق لوجيستية وحرة للتصدير وجذب أقطاب صناعية الدوليين.
التزامات الأطراف
واعتمدت التجربة المغربية على إعادة صياغة لالتزامات الأطراف المختلفة (الدولة والقطاع الخاص) وفقا لما يلي:
الدولـة: تساهم الدولة من جهة بتوفير العقارات ومساحات الأراضى اللازمة بتكلفة (رمزية حقيقية) ومن جهة أخرى إتاحة التمويل الكلى أو الجزئى للتجهيزات الخارجية للبنية التحتية (الطاقة، الماء، التطهير، الطرق، ومحطات معالجة المياه المستعملة).
الشريك: يقوم بتجهيز وتسويق وصيانة وتسيير المناطق الصناعية مع توفير التجهيزات الداخلية والترويج للاستثمار بها، ويلتزم كذلك بإقرار تكلفة مشجعة تأخذ بعين الاعتبار مساهمة الدولة بالنسبة للعقارات والأراضى والتجهيزات الخارجية والبنية التحتية.
وفضلا عما تقوم به الدولة فى هذا الشأن فهى تدعم الشركاء فى إنجاز المشروع عن طريق تسهيل الحصول على التراخيص وكذا المساهمة فى تسويق وإنعاش مشاريع المناطق الصناعية عبر شبكة علاقاتها فى الداخل والخارج، ومن خلال هذه الشراكة يمكن للدولة أن تستفيد من كونها غير ملزمة بإنجاز المناطق الصناعية بالكامل بحيث يتم توفير اعتمادات مالية مهمة تسمح لها بالتركيز على دورها التقليدى فى المجالات الاجتماعية.
الإطار التعاقدى للشراكة
تتقدم الشركات الراغبة فى مشاركة الحكومة فى تطوير وإدارة المناطق الصناعية المشار إليها بعطاءات منفصلة لكل منطقة تشمل رسم دخول وطرح دراسة جدوى تشمل تكلفة الأرض (تملك، إيجار) وإقامة البنية التحتية اللازمة وفقا للمعايير العالمية المعتمدة على أن يتم اختيار العطاء الفائز وفقا للاعتبارات المالية والفنية المعتمدة، وبناءً عليه يتم توقيع اتفاقية تعاون مع الشركة المختارة مع الحكومة المغربية مدتها 30 عاما.
وساهمت مؤسسة تحدى الألفية (مؤسسة حكومية أمريكية تأسست عام 2004 تطبق من خلالها الولايات المتحدة آلية جديدة للمساعدات الخارجية بشكل منفصل عن وزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ويتم اختيار الدول المؤهلة للحصول على تلك المنح من خلال مؤشرات موحدة تتعلق بالسياسات الاقتصادية المعتمدة) فى دعم المغرب فى استحداث المناطق الصناعية المشار إليها عبر «توقيع اتفاقية شراكة بين القطاعين العام والخاص، تتعلق بتهيئة وتسويق وتدبير منطقتين صناعيتين فى جهة الدار البيضاء – سطات». ويندرج المشروعان فى إطار تفعيل مبادرة «المناطق الصناعية النموذجية» ضمن برنامج التعاون «الميثاق الثانى»، الممول من طرف الحكومة الأمريكية، ممثلة بمؤسسة تحدى الألفية، والذى عهد بتنفيذه لوكالة حساب تحدى الألفية – المغرب.
وستكون مجموعة (كاب هوليدينج) الأمريكية الشريك من القطاع الخاص الذى سيتولى تنفيذ المشروعين إلى جانب الحكومة المغربية بالإضافة إلى مشروع إعادة تأهيل وتوسعة المنطقة الصناعية بوزنيقة بميزانية تصل إلى 500 مليون دولار أمريكي، وتمتد المنطقتان الصناعيتان على مساحة إجمالية تناهز 111 هكتارا وفّرتها الحكومة المغربية، وتكلفت الشركة الامريكية بتطوير البنية الأساسية داخل هذه المناطق، وبتسويقها عالمياً وكذا تنشيط أعمالها على أسس مستدامة من خلال توفير خدمات عالية الجودة للشركات.
الأثر الاقتصادي
سعت المغرب وفقا لهذه الإستراتيجية إلى تعزيز النمو الاقتصادى من خلال إنشاء الثلاث مدن صناعية الجديدة بالقرب من الدار البيضاء فى إطار جهود توزيع مشاريع التنمية فى أنحاء البلاد بعد أن نجحت الرباط فى جذب استثمارات كبيرة فى قطاعات الطاقة المتجددة والسياحة وصناعة السيارات وإنشاء عدد من الموانئ والمدن الصناعية فى العديد من مناطق البلاد خلال العقد الماضي.
وتستهدف الحكومة المغربية رفع حجم الصادرات وجنى إيرادات أكبر لاسيما مع حاجة الاقتصاد المحلى إلى مستويات تحفيز أكبر حتى ينمو بوتيرة أسرع بعد كبوة الجائحة وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
ومن المتوقع أن تساهم المناطق الصناعية الثلاث من تعزيز عرض العقارات الصناعية بجهة الدار البيضاء – سطات، والذى يستجيب لمتطلبات المستثمرين من حيث جودة البنية التحتية والمرافق ذات الجودة العالمية مما سيسهم فى تدفق رؤوس الأموال الخارجية الخاصة وتوفير فرص العمل.
وتهدف وزارة الصناعة المغربية من إنشاء المناطق الصناعية الثلاث، التى تمتد على مساحة إجمالية تناهز 136 هكتارا إلى استقبال أكثر من 500 شركة صناعية باستثمارات إجمالية تقدر بحوالى 486 مليون دولار، وستوفر أكثر من 27 ألف فرصة عمل مباشرة.
وتتطلع الحكومة المغربية على المستوى الإستراتيجى إلى رفع حصة الصناعة إلى حوالى 24 فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى بحلول 2030 من نحو 13 فى المئة حاليا، وتهدف الحكومة من وراء إستراتيجيتها الصناعية بعيدة المدى أيضا إلى توفير أكثر من نصف مليون وظيفة جديدة خلال هذه الفترة بما يدعم خططها لزيادة زخم سوق العمل والحد من البطالة.
وبشكل عام فإن المملكة المغربية نجحت فى تنفيذ إستراتيجية صناعية متكاملة بفضل اختيار مواقع لمدن صناعية قريبة من الموانئ والمطارات تتوافر فيها مختلف الشروط الملائمة للاستثمار، بالإضافة إلى توزيع التخصص فى الإنتاج الصناعى (مثلا: مدينة صناعية للسيارات علامة رينو فى طنجة / مدينة صناعية للطيران بالدار البيضاء قرب مطار محمد الخامس الدولى / مدينة للصناعات الغذائية بمدينة بركان شرق المغرب…). وساهمت فى خلق فرص عمل جديدة واستقطاب استثمارات دولية ورفع معدل الناتج الداخلى وتنويع مصادر الاقتصاد المغربي.
مقترحات الاستفادة من التجربة المغربية فى إنشاء المناطق الصناعية:
– أن تقوم الحكومة المصرية باختيار بعض المناطق الصناعية الحالية (فى حدود ثلاث مناطق) التى تديرها الدولة أو جهات تابعة لها كمناطق تجريبية (Pilot Project)، (تطبق من خلالها حوافز مماثلة للتجربة المغربية) وتمنح الحكومة البنوك الاستثمارية أو المطورين الصناعيين من القطاع الخاص (الأجنبى أو المصرى المؤهل لذلك) حق إدارة هذه المناطق وتوسيع نطاقها وإعادة تأهيلها وتسويقها للشركات الأجنبية المختلفة طبقا لرؤيتها لطبيعة الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
– تكليف أحد بيوت الخبرة العالمية باجراء دراسة حول حزم الحوافز والإطار التعاقدى وكذلك التحضير لمناقصة عالمية – مع إمكانية إشراك المنظمات الدولية (كالبنك الدولى ومؤسسة التمويل الدولية) وكذلك وكالات التنمية (كالوكالة الأميركية للتنمية الدولية).
– إجراء مشاورات مع الشركات والتحالفات المهتمة حول الإطار النهائى للتعاقد فبل الإعلان عنه.
– إنشاء لجنة للتقييم والمتابعة لنتائج التجربة وحال ظهور مؤشرات لنجاحها، يمكن البدء فى تعميمها على عدد أكبر من المناطق الصناعية الحالية، أو المناطق الجديد.
بقلم مصطفى محرم
* خبير السياسات العامة