سألنى الإعلامى الكبير الدكتور معتز بالله عبد الفتاح، فى برنامجه الشهير 90 دقيقة، الأربعاء الماضى 22 يوليو، بمناسبة مناقشة روايتى سهل المصري، (كأنك بتقول إن واحد أكل حيوان معين فى الصين، ترتب عليه إن العالم كله قعد يعانى من كورونا لمدة كذا؟) فأجبته (ده أحدث مثال لتطبيق نظرية تأثير الفراشة)، وهى النظرية التى أطلقها الفيزيائى الأمريكى إدوارد لورينتز 1963 وتقول (إن رفرفة جناح فراشة فى الصين قد تتسبب لاحقًا فى إعصار بأمريكا)، ولفهم ذلك يكفى ذكر مثال أن سبب الحرب العالمية الأولى كان مقتل ولى عهد النمسا وأدى لمقتل 8.5 مليون إنسان! وحرقُ محمد البوعزيزى التونسى لنفسه من مسببات ثورات الربيع العربي! وتأثير السيجارة على حياة الإنسان يبدأ بلفافة بسيطة، وقد ينتهى بسرطان ينهى حياته، وهكذا.
فمع تدفق سنوات القرن الـ 21 ودخولنا مشارف ربعه الأول، ظهر أن تطبيقات هذه النظرية أصبحت من الأدوات الاستراتيجية التى يستخدمها الأفراد والشركات والدول فى تغيير الجغرافيا والتاريخ أيضًا! سواء كان استخدامًا واعيًا أو عشوائيًّا أو موجهًا، التطور الخطير فى تطبيق النظرية دوليًّا هو (سرعة التسبب)، والانتقال الموجّه من الرفرفة إلى الإعصار!
ولفهم هذه الملاحظة دَعُونا نتأمل مقولة (صن تزو) عندما قال فى كتابه فن الحرب (أن تُخضع العدو دون قتال هو ذروة المهارة)! ومن هنا كان مثال د. معتز عن (كورونا الصينية) فى محله، بتسببها فى أشهر معدودة فى إعصار عالمى وليس فقط أمريكيًّا!
بمقاييس العلم فالعالم يعيش الآن (حالة حرب) عالمية ثالثة، أكبر وأخطر من الحربين العالميتين الأولى والثانية! فمفهوم الحرب نزاع مسلّح بين دولتين مختلفتين؛ تُدافعان فيه عن مصالحهما وأهدافهما وحقوقهما، أما التعريف الحديث للحرب فقد تم توسيعه ليشتمل على أى نزاع مسلح، ولو لم تتوافر فيه عناصر التعريف التقليدى من امتلاك الجماعة المسلحة لصفة الدولة أو مفهوم السلاح التقليدي!
فما يجتاح العالم الآن حرب عالمية ثالثة تُدار من خلف الستار لإعادة تقسيم العالم، بمثلث سلاح الفيروسات (العلم) والتقنية والإعلام، أما ساحة الحرب فهى صحة ووجود الإنسان ووعيه وتواصله بالآخر على الكوكب، بغض النظر عن تبعيته الجيوسياسية! وغير خافٍ أن الأسلحة التقليدية تعاظمت قيمتها صعودًا، ولكن دون استخدام إلا فى سياسة الردع الدولي، والحروب المحدودة؛ لأن ما يجرى فى الهواء والعقول والغرائز أقوى وأنجع وأقل تكلفة وأشمل تأثيرًا وأقل عداوة!
والملاحظ أن حرب كورونا العالمية الثالثة بها نوعان من أنواع الحروب: حرب باردة، بدأت بتفجير مكيدة الفيروس من كل طرف من الأطراف المتنازعة، للطرف الآخر (كما هو مُشاع ومتبادل بين الصين/ أمريكاـ فرنسا/ الصين)، دون أن يكون هناك قتال مادى أو حرب معتادة، ثم حرب استنزاف تهدف إلى استنفاد قوى العدو وإنهاء موارده (احتياطى نقدي/ مخزون استراتيجي/ موارد طبيعية/ وفيات موارد بشرية/ محاصرة اقتصادية وأمنية بسبب الوباء/ غلق أسواق/ انكماش أنشطة)، ليدخل المتلاعَب بهم ساحة التركيع أو الركوع الاختيارى لمجرد استمرار البقاء على قيد الحياة.
ورغم معايشتنا العالمية لحالة الحرب الجديدة فإن الوضع المصرى بداخلها خاص جدًّا، تنطبق عليه حكمة صن تزو المذكورة فى الصراع مع إثيوبيا من جهة، وأيضًا ارتباط هذا الموقف بتصدير حروب الجيل الخامس لها من جهة أخرى؛ كونها حروبًا مؤسسة على معنى (التفجير من الداخل) للدولة والمجتمع، بخلق الصراع بينهما فى صراع العقول والسيطرة عليها، بتبنّى أشكال جديدة من الأسلحة غير التقليدية كحروب تفتيت وشرذمة الوعى الجمعى لشعبها، من خلال المعارك الاقتصادية والمعلوماتية والثقافية والدينية والرياضية، وهو ما جعل الإدارة المصرية تدير ملفات صراعتها بتنوعيات مختلفة على لحن البقاء!
فنراها تحترف الحكمة والتفاوض وسلاح الوقت جنوبًا مع إثيوبيا التى بها «جدار يريد أن ينقضَّ»، وتحترف سلاح الردع الاعتراضى الحاسم شرقًا فى ليبيا، وغربًا بسيناء، وتشارك بفعالية فى بلياردو العالم الجديد شمالًا! مصر فى هذه الحقبة تتدرب لدور عالمى مقبل، يستطلع فيه العامة القتامة والانهيار والموات، ويؤمن فيه الخاصة بمعانى جديدة للفوز وفن البقاء.
وكما ورد على لسان أحد أبطال رواية سهل المصري:
(عندما تُطلق عصفورًا لسماء احرص على أن يُحلّق بحرية، فإما أن يتعلم قواعد هذه السماء، أو يعود لك بأفلاك جديدة)، وهو ما يحدث فعلًا فى علاقة مصر بسماء القرن الـ 21! فهناك أفلاك جديدة تنتزعها مصر بهدوء لتشكل فلكها الخاص، بتركيبة من رؤية الغد، بالحكمة، بالقوة، بفن التوقيت، بالاستراتيجية، بالتسليح، وبقدرة الردع.
قد تكون رواية سهل المصرى إحدى أدوات مقاومة حروب الجيل الخامس، بنشر الوعى بين الجمهور بتأكيد أهمية وكيفية استخلاص حلول تغيير لذاتنا من ذاتنا، لنخرج من صندوق تبعية وسيطرة الآخرين، لاحتلال مناطق جديدة من الأمن والاستقرار والتقدم. وهو ما تنجح فيه وتصارع معه مصر حاليًّا.. لتصبح رغمًا عنها، طرفًا فى حرب الجيل الخامس بين القطبين الكبيرين.. الصين وأمريكا!
فكما قال د. على غائر بالرواية …
(هذه البلد لا ولن تقع، برفيسور! ودورات الزمن بها محسوبة، وأدوات تغييرها مرصودة من الحُماة، هذه الأدوات لها أشكال كثيرة ومتنوعة ومتعمقة فى النسيج المصري، برغم كل الظواهر والتيارات والصراعات والفرق، حتى دورات الفشل والتقهقر والتراجع، مرصودة بعناية، ولكن كما تعرف، فعشرون أو خمسون سنة فى عمر بلد لا تعنى شيئًا، والعديد من أجيال الحماة تعلّموا من الغزو الفرنسى والاحتلال البريطانى ونحتوا لأنفسهم نسقًا مختلفًا أفرز العديد من النجاحات المتباعدة عبر العصور، بالصورة التى حافظت وتحافظ على قوام مصر كما عرفتها وتعرفها وستبقى على الدوام!)