قال صديقى السبعينى “النكت كتير بس اللى يفهم، لكن السماجة واللزوجة الآن أكتر! تفتكر النكتة مزحة وتفريج نفس فقط؟ معانى النكتة كتير؛ الأثرُ الحاصلُ من نَكْتِ الأَرض، العلامةُ الخفيَّة، الفكرةُ اللطيفة المؤثِّرة بالنفس، المسألةُ العلميَّةُ الدقيقةُ المحققة بدقَّة، البديهة الحاضرة- والنكتة بذلك معنى وفكرة ورسالة وأثر، بل سلاح له حساباته وخطورته، فهى قياس لدرجة ونمط تفكير وعقول الشعوب ووعيها الجمعى للتعامل مع الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية، وقدرتها لابتكار حلول تصادمية قاسية لواقع أقسى، فتكون النكتة كبسولة تمرد أو سخرية أو رفض أو شرارة للتغيير”.
عقّبت قائلًا: “متابعتى للنكت المصرية منذ زمن بعيد، حصرتها بلغتها وفكرتها وأثرها السياسى والاجتماعى، كتعبير عن زمن بهجة وحراك فكرى ونضج ثقافى يتم تجريفه تدريجيًّا، على يد الإعلام والأزمات الاقتصادية والصراعات الاجتماعية، ليتم اختزالها مؤخرًا فى السخرية والتنمر، وجلب المشاعر بالكوميديا السوداء، ولم أنظر لها بمعانيها الأخرى! فالنكت فعلًا من العلامات الخفية على بلورة وضع وحقْنه بكلمات تترجم رفض مواقف برمتها لملاحظتها أو إصلاحها، ولم أتوغل بمعناها كدليل علمى على الحلول المبتكرة، وإن كانت دومًا مؤشرًا لدرجة نضج الوعى الجمعى المترهل مؤخرًا، واستشعر معه موات النكتة المصرية بمعانيها المختلفة”.
ابتسم السبعينى وقال: “الموات كلمة كبيرة، عزيزي! فالأَرضُ الموات التى لم تُزرَع ولم تُعْمَر، ولا أظنُّك تقصد بذلك أرض الوعى الجمعى المصرى المعاصر! وإلا فالثورات بدءًا من المماليك أتت من فراغ، رغم حزم النكت التى أعقبت بعضها، لتمهد الأرض لأخريات!”.
تفكرت فى قوله وعقّبتُ: “أنت، يا سيدى، تخلط بين النكتة والسخرية! فالأخيرة من طرق التعبير التى تُقلب فيها المعانى لما يقوله الساخر، كنقد أو انتقاد يصل للاستهزاء، بدون هدف أو رسالة! النكتة الحقيقية صناعة وإنتاج وإفراز ثقافة، بالأصل نتاج البهجة وحرية الضمير، وتصل إلى حد جنس أدبى مبتكر، مع مساحات فهم ونضج تجعل أراضى المعانى والأفكار والأحلام تُنكت وتُحرث، لتُثمر فى النهاية مقولة ورسالة فى أذن مسئول أو حاكم أو طاغية فيعيد حساباته، والتاريخ يزخر بعشرات الظرفاء والساخرين الذين مهدوا طرق الإبداع والتغيير بسجنهم والتضييق عليهم. أما ربطك بين الوعى الجمعى والثورات وتمهيدات النكت على الأوضاع، فهو مناورة أحب أن أستزيد من خباياها”.
اعتدل السبعينى بجلسته، وعقد كفّيه على ركبته وسرَح قائلًا: “لا أنكر لحاقى بزمن البهجة والخشية معًا! منذ ستين عامًا كان عمرى 15 سنة، وعاصرت زخمًا من الحراك الثقافى والاجتماعى والسياسى، للعديد من السياسيين والاقتصاديين والمفكرين والأدباء والمثقفين، حتى الحرفيين ورجال الأعمال، كانت النكتة لهم أدوات تفريج وأسلحة نقد ومشاعل إضاءة ومنافذ تفريج، حتى النكت الخارجة كانت تقف بعد سماعها والانتشاء بتصورها. عاصرت تضفير السخرية بالنكت، وما أصاب بيرم التونسى ومحمود السعدنى وأحمد فؤاد نجم وغيرهم، والمستوى الأكثر كياسة فى كامل الشناوى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين شفيق المصرى وعبد الحميد الديب وأم كلثوم وغيرهم. وبرغم دخول مصر عهدًا جديدًا منذ 1952، صادف زخمًا من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية حتى منتصف الثمانينات، فإن صناعة النكتة دومًا ارتبطت بالإبداع والذكاء واللغة الأذكى. ومع مرور السنين والأجيال، عاصرت نحرًا يتم فى الشخصيات والمبادئ والقيم واللغة والعلاقات، ساعدت التكنولوجيا مؤخرًا بالسوشيال ميديا إلى حد كبير فى الاجتراء عليهم ونحْتهم! أفهم أن ذلك من سنن التطور والتغيير، ولكننى أفتقد روح البهجة المندثرة والفكر المرن والعقول القوية، أفتقد الاحترام ولو فى نكتة! ولعل ما وصلنا له نكتة كبيرة، حسب رأيك فى معنى السخرية! أما النكت الحقيقية ففعلًا أعتقد أن أرضها أصابها موات مؤقت”.
استشعرت الأسى من استرجاع جليسى لزمن يتآكل فعقّبت: “لعلِّى قسوت قليلًا باستخدام تعبير موات نكت مصر! ولكن هذا ما أشعره حاليًّا، فللأسف مات الظرفاء عقماء، وعباءة مسيخنا الدجال الحديث المسمى بالتلفاز والكمبيوتر والإنترنت، تُبلينا يوميًّا بالمستظرفين النطعاء المستنطعين، وتطور التنكيت للاستهزاء، وذُبحت اللغة بيد الترندات ونجوم المهرجانات، والدراما السوداء وفنانى المسخ.. إلخ. أصابت الأزمات الاقتصادية العالمية والفجوات الاجتماعية والضحالة الفكرية نهر التنكيت الإيجابى، لتظهر زقازيق السماجة واللزوجة والتنطع والتنمر والسواد والسطحية! الانشغال بالأسعار والقرارات والقروض والفتاوى وأزمات التعليم والتوظيف وضبابية الغد.. إلخ، مع ضمور الفكر ومنابع البهجة الطبيعية وتنمية مسارات الثقافة والتعامى عن أضرار شراء القوة بالبلطجة، والضحك بالبذاءة، والإعجاب بالهرتلة، والشهرة بالعرى، يعرضون أراضى أجيال بأكملها من الإبداع والابتكار والحرية للموات، لنبنى عليها صروحًا نسكنها واجمين لصالح متلاعبين”.
أغمض السبعينى عينيه وقال: “لا أريد التسليم بموات نكت مصر كرأيك، رغم أننى أعيشه مع موظفِيّ وجيرانى وأبنائى وأحفادى لحظيًّا! لدرجة أنه عندما أسأل أيًّا منهم: إيه آخِر نكتة، ينظر بفتور ويقول (خلينى أجوجل عليها وأقولك)، ويقذفنى بنص أو مونولوج لزج فى أذنى ويقول: كمان؟ ما أعيش عليه فكرة أن الأيام دُوَل! ربما أرض النكت المصرية تحتاج لنكتة وتقليب حريات رأى أكثر وإفاقة مجتمعية ونقدية أكثر، ربما بتصحيح مسارات كثيرة فى التعليم والفن والإعلام والاقتصاد والثقافة وتذويب الوهابية وتفهُّم المواطنة، ربما بالاهتمام أكثر بإنسانيات البشر وإعطاء الأمان لفكر الموضوعيين وتقليم أظافر مجرفى وعينا، ربما بمزيد من الصبر للمبهج المنتظر!”.
وجمتنى عباراته صمتًا لبرهة ثم ختمت: “بل ربما نستعيد تعريف الزمخشرى، بأن كل نقطة من بياض فى سواد، أو سواد فى بياض، نكتة! وقوله عليه السلام: “إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتةٌ سوداء فى قلبه. فإن تاب ونَزَع واستغفر صُقِل منها، وإن زاد زادت حتى يغلَّف بها قلبه، فذلك الران الذى ذكر الله فى كتابه: {كلا، بل ران على قلوبهم}” لذلك فلعلّ إعراضنا عن زمن النكت البيضاء جعَلَنا نلِجُ فى سوداء الموات، ليتوب وعينا وننزع نحو مصر جديدة تسقينا بهجة وتُنجبنا ظرفاء جدد بلا مُبهج منتظر”.
* محامى وكاتب مصرى