رفاعى الإنسان

9:27 م, الثلاثاء, 5 أغسطس 14

جريدة المال

المال - خاص

9:27 م, الثلاثاء, 5 أغسطس 14


رجب عزالدين

ذلك الإنسان الذى  لا يلقاك إلا مبتسما أو ضاحكا حتى تكاد ضحكته تشبه ضحكات الأطفال فى براءتها،يقدم لك مشروبك بنفس سمحة مشفوعة بابتسامة بريئة ليست من أجل فضل أو حاجة يريدها وإنما لحقيقته المرحة البشوسة التى لا يستطيع اخفائها فتظهر على وجهه وتصرفاته بشكل تلقائى

.

منذ أن عملت فى جريدة المال،كان رفاعى من أوائل الناس الذين تعرفت عليهم وتكونت بينى وبينه مساحة انسانية واسعة أخذت تكبر وتتسع حتى تماهت الحدود.وكلما غاب عن المكان أياما أشعر بأن المكان ينقصه الكثير،وكلما غبت عن المكان حدثنى عن نفس الشعور.يبدو أنه صار منى بمنزلة الأخ وصرت منه كذلك.

ذلك الإنسان فقد منذ عامين أحد أطفاله الصغار فى ظروف طبيعية وعادية للغاية بعد سنة من ميلاده، فتلقى الصدمة هو وأسرته بصدر مؤمن بقدر الله وأحتسبوه عند الله ودعوا الله أن يبارك لهما فى ابنتهم التى تبلغ من العمر أربع سنوات.ومرت شهور وأنجب طفلا آخر ففرح به هو وأسرته وقالوا لعل الله قد عوضنا به خيرا ليكون الونس لأخته ،وكانت الصدمة الكبرى أن مات الولد بعد خمسة أشهر من ولادته فى ظروف عادية أيضا دون سابق شكوى من مرض أو عيب خلقى أو وراثى.

نسأله ما الذى حدث يا رفاعى ؟ كيف مات؟ يقول كنت ألعب معه كل صباح وأداعبه وأقبله قبل أن أذهب للعمل كالعادة ،وفى هذا اليوم لعبت معه وقبلته وذهبت إلى العمل ،وفى الطريق جاءنى هاتف يخبرنى بأن ابنك قد توفاه الله،فذهبت إلى البيت مسرعا لا أصدق ،وأقول فى نفسى لعل الولد أغمى عليه أو أصابه أى مرض مفاجىء من أمراض الأطفال،فقد لعبت معه فى الصباح وكان يلعب معى دون أن يشتكى من شىء أو يصرخ أو يبكى .لكن عندما وصلت إلى البيت أخذت أقلب فيه وأضع سمعى على قبله لعلى أستشعر ما عجزوا عن استشعاره من نبض أو حياة ،لكن يبدو أن قدر الله قد نفذ بالفعل.فبكيت كثيرا أنا وأمه وكل الأسرة فهذا ثانى طفل يموت دون أى مقدمات.ولكن بعد أيام نزلت علينا السكينة فبدأنا نتقبل الأمر بصدر المؤمنين بقدر الله واحتسبناه عند الله ودعونا الله أن يبارك لنا فى أخته ويرزقنا بخلفه الصالح الذى يدوم.

ومرت سنة ورزقه الله بمولود جديد فاستبشر به خيرا ولكن على حذر،وأمسك بزمام فرحته وألجمها خشية اليوم الموعود الذى بات يتكرر كل عام دون سابق انذار أو موعد،وكنت أمازحه دائما قائلا “لعلك يارفاعى تقبل طفلك فى المساء راجيا أن تراه فى الصباح”.فيقابل مزحتى بضحكات عالية من فرط ما يشعر به،ولا أدرى هل ما كنت أفعله انسانيا،أن أذكره بما يعانيه مازحا ،أم أن المزاح فى هذه الأمور ينبغى أن يكون بحذر ويا حبذا  لو انصرف إلى أمور أخرى،لكن ضحكاته كانت تشعرنى بأن ما أفعله بتلقائية انسانية مازال انسانيا .

منذ أيام دخلت الجريدة وإذ بورقة معلقة مكتوب عليها خبر وفاة ابنة شخص يدعى رفاعى،فأخذت احملق فى الورقة متيقنا أنه رفاعى آخر غير الذى أعرفه،فوجدت اسمه مكتوبا بالكامل  ورقم هاتفه لمن يريد العزاء (بالمناسبة اسم والده على اسمى )،فلم أصدق نفسى ،فسألت ثلاثة زملاء هل هذه ابنة رفاعى الذى نعرفه ،وكانت الاجابات صادمة .

يا الله يا لطيف،لقد خطف الموت ابنته(نيرة) التى  قضت بينهم خمس سنوات من عمرها تناديهم كل يوم “ماما “و “بابا”،لقد ظنا أنها أصبحت فى مأمن من الموت،فصبا عليها جام فرحتهم فكان نصيبها من حب والديها كنصيب ثلاثة من الأطفال،وبدءآ يتسابقان فى رسم مستقبلها بعد انقشعت سنوات الخطر من وجدانهم ،فهو يريدها طيبية لتخدم الفقراء من أهل قريته بينما تريدها زوجته مدرسة لتخدم الفقراء أيضا،وهذه زوجته تقوم بتعنيفها إذا ارتكتب خطأ  فتفر البنت هاربة إلى حضن أبيها فيحتضنها برفق بالغ ثم يقبلها ويعطيها نقودا لتشترى بعض الحلوى ،ثم يعاتب زوجته على ذلك،فتلومه هى الأخرى على تدليلها الزائد الذى سيعودها على الخطأ،فيسكت ولكنه ينظر اليها نظرة تفهم منها ما يريده ،فتهدأ وتسكن وعندما تعود البنت تحتضنها أمها حضنا شديدا يشبه من افتقد عزيزا لسنوات ثم تعطيها نقودا لتشترى به حلوى فتفرح البنت وتنطلق بعد أن تقبلهما معا.

جالت فى ذهنى ذكريات الموت وفراق الأحباء وتذكرت جدتى التى مات لها من الأولاد خمسة وصمدت محتسبة راضية حتى استطاعت أن تربى أمى وخالى وإن كانت قد أصيبت بالصمم من فرط حزنها عليهم،ثم تذكرت حديثا قدسيا كنت أقرأه كثيرا وأمر عليه مرروا الكرام،لكنى اليوم أكثر احساسا به وكأنى أرى رفاعى وأسرته  وجدتى هم المقصودن تعيينا بهذا الحديث،وقد جاء فيه أن الله سبحانه وتعالى يسأل ملائكته إذ قبض أطفال عباده،أقبضتم ولد عبدى؟ فيقولوا :نعم ربنا : فيقول: فماذا قال عبدى (والله أعلم بما قال العبد)؟  فيقولوا : حمدك واسترجع ، فيقول: أخذتم ثمرة فؤاده وفلذة كبده وحمدني واسترجع ، ابنوا له بيتا في الجنة ، وسموه بيت الحمد.

لا أدرى كيف سيكون شعورهم وكيف سيتلقون الصدمة هذه المرة،وهل ستستطيع أسرته وأهله تجاوز هذه الأزمة أم لا،لكن أظن أن رفاعى على الأقل سيظل مبتسما كعادته لكنى لن أمزح مجددا فى هذا الأمر وسأمزح كثيرا فى أمور أخرى.

جريدة المال

المال - خاص

9:27 م, الثلاثاء, 5 أغسطس 14