رسالة مجهولة من الأمن القومى الأمريكى إلى الأمن القومى الأمريكي

رسالة مجهولة من الأمن القومى الأمريكى إلى الأمن القومى الأمريكي
طارق عثمان

طارق عثمان

7:31 ص, الأحد, 31 يناير 21

منذ أيامٍ نشر واحد من مراكز الفكر النافذة فى واشنطن، رسالة طويلة مجهولة الكاتب تطرح تصورًا لكيفية مواجهة الصين فى المرحلة المقبلة.

من النادر نشر كتابات مجهولة الكاتب فى مراكز بحث كبرى. ولعل المثال الأشهر لذلك، كان التقييم الذى كُتب فى أواخر الأربعينيات ونُشر فى مجلة فورين أفايرز الذى قدَّم تصورًا عن كيف يمكن للولايات المتحدة التعامل مع الاتحاد السوڤيتي. وكان التقييم يومها مجهول المصدر، نُشر بإمضاء (X). وعُرِف فيما بعد أن كاتبه كان جورج كينان، الذى كان وقتها دبلوماسيًّا أمريكيًّا فى موسكو، ثم أصبح فيما بعد العقل الرئيس فى هيئة الأمن القومى الأمريكية لمواجهة الاتحاد السوڤيتى (إلى أن اختلف تمامًا مع أفكار إدارات متعاقبة وقرّر الاعتزال، وإن بقيت أفكاره الأولى بوصلة صُنع العمل الإستراتيجى الأمريكى نحو الاتحاد السوڤيتي).

هذه المرة، الكاتب معروف لمركز البحث الذى نَشر المقال المطوَّل، وإن اتفق الاثنان على إخفاء هويته. لكن المؤكد أنه ذو خبرة بأعمال التقييم الإستراتيجى داخل الحكومة الأمريكية، وغالبًا فى جانبها الاستخباراتى وليس العسكري.

الرسالة تبدأ بتحديد لماذا يُشكل صعود الصين تهديدًا للولايات المتحدة. والمهم هنا أن التركيز ليس على الجانب العسكرى فحسب، ولكن على السرعة الكبيرة لدى الصين فى العقدين الماضيين فى استيعاب تكنولوجيات وأفكار حديثة. والاستيعاب بالضرورة يعنى القدرة على التطوير.

التركيز الثانى على معنى التهديد. والنقطة الأهم هنا هى ليست فحسب وجود الإمكانات، ولكن الاحتمالية شبه المؤكدة أن هذه الإمكانات العسكرية والتكنولوجية والعلمية والفكرية والاقتصادية سوف تُوضع لخدمة أهداف متعارضة مع المصالح الأمريكية. بناء على ذلك، هذه الرسالة تريد تصعيدًا أمريكيًّا لطريقة التفكير فى مستقبل المواجهة مع الصين- تصعيدًا أبعد من فكرة «المنافس الإستراتيجي» التى طُرحت فى إستراتيجية الأمن القومى الأخيرة فى 2017.

التصعيد ليس مجرد إحلال كلمة مكان أخرى، ولكن تحديد أهداف جديدة نحو الصين.. هذا يُعيدنا إلى رسالة جورج كينان فى أواخر الأربعينيات، والتى كانت فى جوهرها، تحليلًا لمواطن الضعف فى الاتحاد السوڤيتي، والتى وصلت إلى تصور أن الاتحاد السوڤيتى سينهار من الداخل خلال أربعة أو خمسة عقود، وأن سياسة «الاحتواء» (كما سماها كينان وقتها) يجب أن تُضعِف قدرة الدولة السوڤيتية على التعامل مع مواطن الضعف المجتمعى والاقتصادى والفكرى والسياسى لديها. وبالطبع كان فِكر كينان والإستراتيجية الأمريكية المترتبة عليه واحدًا من أهم النجاحات السياسية الأمريكية فى القرن العشرين.

التركيز الثالث فى الرسالة عن الرئيس الصينى تشى جانپينج. الكاتب يعرض رأيًا؛ وهو أن صعود تشى إلى رأس الحزب الشيوعى فى الصين غيّر من اتجاه السياسة الصينية. قبله (خاصة زمن چيانج زيمين وهيو جينتاو) الصين كانت تسعى لتثبيت الوضع الإستراتيجى الراهن فى شرق آسيا- أى منع الولايات المتحدة من توسيع نفوذها فى المنطقة دون تحدى المصالح الأمريكية. الآن (فى نظر الكاتب) الصين تسعى لتغيير الوضع الإستراتيجى فى شرق آسيا، وهناك تأكيدات لطموحات لفعل الشيء نفسه فى حزام جغرافى أوسع.

بناء على هذا، الرسالة تسعى إلى نقطتين:

الأولى: نوع جديد من إستراتيجية كينان نحو الاتحاد السوڤيتي: تحديد لمواطن الضعف فى هيكل السياسة والمجتمع والاقتصاد والأفكار الحاكمة فى الصين، وتحديد أهداف أمريكية نحو مواطن الضعف تلك.

النقطة الثانية: تفعيل فكرة «فرِّق تسُد» داخل الهيكل الحاكم فى الصين. الرسالة تركز على تشى والمجموعة المحيطة به، وتطرح إحداث شروخات داخل الحزب الشيوعى الصيني- ليس لإسقاطه ولكن لتغيير مساره، والعودة به إلى النقطة الفكرية التى كان عليها قبل صعود تشى چانپينج.. هذه نقطة مهمة؛ لأن فى ذلك إدراك أن إسقاط الحزب الشيوعى فى الصين هدف شديد الصعوبة الآن. لكن تغيير مساره والعودة به إلى أن يقرر عدم جدوى تحدى الولايات المتحدة، شيء آخر.

هناك الكثير من الأفكار الذكية فى الرسالة. كما أن هناك استيعابًا واضحًا لتجربة أفكار جورج كينان حول الاتحاد السوڤيتي. لكن هناك ثلاث مشاكل فى تلك الرسالة.

أحدها: ليس هناك تفصيل يُظهِر أن هناك اختلافًا جوهريًّا داخل الحزب الشيوعى الصينى حول أفكار وسياسات تشى چانپينج والمجموعة التى حوله. هناك صراعات سلطة، نعم.. لكن تلك لا تعنى بالضرورة اختلافات حول مستقبل الدولة.

الثاني: المحاور التى تطرحها الرسالة للعمل، بعد تقديم الفكر العام، لا تحمل جديدًا، وتدور حول النقاط نفسها التى أُثيرت فى عهدى الرئيسين أوباما وترامب؛ وهى تقوية عناصر الفعل الأمريكية فى مواجهة صعود الصين.

وأخيرًا: الرسالة لا تربط بين قدرات الفعل الأمريكى وما تراه مواطن ضعف صيني. وعليه تفتقر إلى التكامل المطلوب من أى فِكر إستراتيجى يستحق ذلك الوصف. رغم ذلك، من الواضح أن هناك الآن تيارات فِكر فى واشنطن أكثر قلقًا من الصين، وخاصة من القيادة الحالية لحزبها الشيوعي. وكالعادة فى دوائر القرار الأمريكية، مطبخ الأفكار يأخذ وصفات مختلفة ويُجرِّبها ويخلطها. لكن دائمًا مِن وسط ذلك الزخم، وفى لحظات القلق، نرى طبخات جديدة. ولا شك أن المطبخ الأمريكى الآن مشغول