للعدد الأول من أى إصدار جديد مكانة خاصة فى قلب جميع العاملين به، هذا فى الأحوال العادية، فما بالك لو كان أغلب العاملين صحفيين شبانا ظلوا لعدة أشهر يتدربون ويتعلمون ويكتبون ويعيدون كتابة ما كتبوه مرة ثانية وثالثة ورابعة… حتى ظن البعض منهم أن كتاباتهم هذه لن تعرف طريقها إلى النشر أبدا، ولن تقع عليها – ولو مصادفة – عين القارئ الذى يسعون لكسب احترامه أولا قبل وده.
يقترب الحلم… تبدأ مرحلة الرعب، تتداعى هواجس عدم تحقق حلم، بات يستوطن العقل ويستحوذ على الوجدان… الهلع من أن تكشف التجربة عن اتساع الفجوة بين ما يعتقده المرء عن نفسه ومن معه وقيمة ونوعية ما يبذلونه، وبين حقيقة كل هذا المحك الحقيقى… أرض الواقع… أعين الآخرين… حين تتلقف حصيلة جهودهم أيدى قراء ربما لا يتسع وقت بعضهم سوى لرسم انطباع مبدئى. سلبى أو إيجابى لا يهم.. فى جميع الأحوال سيستقر فى أذهانهم إلى الأبد.
وتتوالى ردود الأفعال.. فاكسات – رسائل البريد الإلكترونى – اتصالات هاتفية، تحمل معها مديح – ذم – سب – ملحوظات شكلية وموضوعية، تباين فى الاهتمامات، وتبادل المواقع يثير الدهشة فى بعض الأحيان صحفى يتحدث عن الإعلانات ورجل إعلان يدلى بتعليقات على الثقافة، ومثقف يطرح تساؤلات عن التمويل، وهيكل الملكية وتركيبة المساهمين.
آخرون دفنوا رؤوسهم فى الرمال، واكتفوا بعبارات الشجب والإنكار!، البعض انتهز الفرصة لمحاولة تصفية حسابات قديمة، لا تزال آثارها عالقة في كهوف ذواتهم، ويعجز جهابذة التحليل النفسى عن الوصول إليها، ناهيك عن محاولة فك طلاسمها والتعامل معها وإزالتها.
\
ذهبت حيرة الارتباك عن العقل، لتفسح أمام خلوات التأمل، وإعادة فرز وترتيب الأوراق وتصنيف ردود الأفعال للتعامل معها بأكبر قدر من الموضوعية، السقطات والهفوات نعتذر عنها، ونحاسب أنفسنا عليها، قبل أن تطرب أنفسنا لعبارات الثناء والمديح، أوجه القصور نسعى لمعالجتها، فى نفس الوقت الذى نعد بالمزيد من المحاولة على نواحى التميز – إن وجدت – والأهم من ذلك.. نعد بتوافر رغبة التطوير وإرادة الاستمرار. وهذا ما ستلمسه عزيزى القارئ خلال الأعداد القادمة.
عاهدت نفسى منذ سنوات ألا أكتب فى أمور السياسة، وبصفة خاصة فيما يتعلق بموضوعات العلاقات الدولية والشئون العربية، ليس ترفعا مني-لا سمح الله، – ولا اعتقادا مريضا في «قلمى» بأنه الفارس الذى لا يشق له غبار، وإنما لشعور بدا لى فى حينها منطقيا – ولا يزال – ان الكتابة السياسية فى بلادنا هى – على عكس دول أخرى هى فى أفضل الأحوال – وفيما عدا استثناءات – نوع من أنواع التنفيث عن النفس، وفى أسوأ الأحوال – وهى الحالات الغالبة – نوع من الكتابة ثنائية الطرفين، طرف يكتب مبتغيا استرضاء الطرف الثانى. عسى أن تلتقى مع توجهات وسياسات تم الاتفاق عليها مسبقا، ولم يعد يتبقى سوى أن تنال حظها – وهو عادة وفير – من الترويج والتطبيل.
هذا هو شأنها عندنا – الكتابة السياسية – لا فرق بين قضية داخلية وخارجية، تؤدى دورا مرسوما بعناية، وليست – كما ينبغى أن تكون – أحد الأدوات المهمة للتفاعل ما بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة، ومدخلا أساسيا للتغيير، وليس للتشنج وإلقاء الشعارات وتوزيع التهم، والتشبث بالرأى. وكأنه – الرأى – الوطن والشرف وبل والذات نفسها التى لا يمكن التنازل عنها.
وهكذا رأينا مئات التحليلات والمقالات حول الأزمة العراقية، فلا هى ساعدت فى تبلور موقف وطنى محدد – لن أقول موحد – لأنه لا يوجد مثل هذا الموقف ،- ولا نجح كل فريق فى إقناع جزء من الرأي العام في ممارسة ضغوط – أو إيصال صوته بأى طريقة – تعبر عن موقفه على أى طرف فاعل في القضية
.
وهكذا ضربت العراق، وسيتغير النظام السياسى، وستتغير خريطة المنطقة، والمنظومة الدولية، وستتأثر مقاديرنا السياسية والاقتصادية… وتظل الكتابة السياسية عندنا ترواح مكانها بين التنفيث والثنائية.
أقرأ أيضا: