يستنفر مشروع رأس الحكمة الجديد المشاعر الوطنية، لتحلم بتحقيق وعد أم الدنيا، ولكن رأس حكمة مصر الجديدة هى احتراف صناعة التغيير، بما يناسب مواصفات ومتطلبات تحقيق ومعايشة مصرنا الجديدة! بمعنى استيعاب أهمية التغيير الإيجابى للوعى الجمعى للشعب والإدارات الحكومية، ليستوعبا ما يدور حولهما وصعوبة وخطورة المرحلتين الحالية والمقبلة! حيث تستدعى مشاريع رأس الحكمة ورأس جميلة والمدينة الصينية والمراحل المقبلة فى سيناء ورفح، استيعاب تأثيرها على محاور المكان والوعى الجمعى للشعب والإدارة!
الصورة العامة لمصرنا الحالية تكافح اقتصاديًّا وحرجة مجتمعيًّا وخدميًّا، رغم المجهودات الخارقة التى تبذلها الإدارة، خصوصًا آخر 3 سنوات، فى صيانة وتطوير البنية التحتية واستحداث خدمات عامة، والمحاولات الجادة لمواكبة النظم العالمية. وبالإعلان عن مشروعات المدن الجديدة، ستشهد مصر موجات حديثة فى التخطيط ونظم العمل والإدارة وتنفيذ المشروعات والرقابة ومعايير الجودة… إلخ، خاصة أن مواقع هذه المدن بعيدة جغرافيًّا عن أقاليم الدلتا والصعيد والتركيبة السكانية فيها (بتقاليدها، وأعرافها، ونُظم عملها، وحتى مفاهيم وجودة العمل والثقافة والإعلام والتعليم بها، وهو ما ينعكس على مستويات الفقر والثروة ودخل الفرد وإجمالى الناتج القومى).
واقعيًّا؛ فالجغرافيا ستُكسب المدن الجديدة فرصة (تفصيل) مفاهيمها الخاصة بالعمل والحياة والترفيه ونظم الإدارة والحرية بها، بما سينعكس حتمًا على شكل ومستوى وسلوك ومبادئ وثقافة قاطنيها. كل ذلك سيسمح به المكان بعيدًا عن ثقافة معيشة وعمل وفكر ونظم أقاليم الدلتا والصعيد! وبالتالي، فطبيعى نتوقع اختلافات جوهرية بعدالة توزيع الاستثمارات والموازنات، ومستوى وجودة الخدمات والاحتياجات الضرورية ودخل الفرد، وثقافة المعيشة والأولويات، وحتى مفهوم الحرية وممارستها داخل «البنات الجديدة لأم الدنيا»، بما ستكشف عنه الفروق الواسعة جدًّا بين «مستويات العيشة» لمواطنى محافظاتنا، و«طفرات الحياة» (لقاطنى) تلك المدن!
لا شك أن بمصر دولة عميقة راسخة من القوانين والنظم والقواعد والأعراف، التى تنظم إدارة مرافق وخدمات الدولة، وتعامل المواطنين معها وانتفاعهم بها، ويتشكل منها وعيهم الجمعى لمفاهيم الاستثمار، تحرير التجارة، جودة العمل والأداء، الاحتياج للثقافة… إلخ، ولكن دعونا نعترف بأن هذه المنظومة تحتاج لثورة فى إعداد وتدريب شباب الوادى على مفاهيم وجود عيون الاستثمارات الجديدة على أرض مصر! فشباب مصر من سن 12 – 33 يحتاج لنفضة حقيقية لمعطيات وعيه على مستوى التعليم، الثقافة، الإعلام، الفن، الدين؛ حتى يكون مؤهلًا لأجيال جديدة ستوجد وتنمو بالمدن الجديدة، ويلزم للتواصل معهم مواكبتهم فى معطيات البيئات الاجتماعية والعملية والاستثمارية والثقافية التى ستبزغ منها. فالعالم الجديد لن يكون مجرد ثورة معمارية أو ثورة تكنولوجية أو نهضة تجارية، بل سيأتى بمنظومات عمله وكوادره، ونقل معرفته الفنية، وثقافته المعيشية، ومواصفاته الوظيفية… إلخ، ليكون السباق رهيبًا بين الناتج المحلى للدول المستثمرة فى «أقاليمها الاقتصادية» على أرض مصر! فما بالك بموقف الناتج المحلى المريض للفرد بمحافظاتنا العتيدة؟ وهو ما يقودنا لربط أثر كل ذلك بتغيير وعى الشعب المصري، لاستيعابه لما هو مقبل، وموقعه فى تنفيذه، ودخل الفرد فيه، والالتزام بقواعده العملية والمعيشية… إلخ!
إن عدم وضع برامج حقيقية لتطوير مكونات وعى مصريى الأقاليم التقليدية (لتُوائم طفرة الحياة بالمدن وشعوبها الجديدة)، سيصيبهم ذاتيًّا بإحباط مرعب من الفرق الرهيب بين مستويات المعيشة والدخل والأجور وجودة الحياة هناك! ولن يجيدوا وقتها إلا فنون الهجوم والانتقاد أو التبكيت والتنكيت، والصراخ طلبًا للتغيير! فإذا كانت قيمة إنقاذ مصر بالاستثمار المباشر أو البيع لأصولها، هو فك (بعض) ديونها، فثمنه فادح لشعبها، الذى لن ينال من مبالغ الإنقاذ ما سيلمسه بعربة فول الصباح، أو خفض أسعار تذاكر المترو، وإنما سيعاينها باستمرار تعمير الحجر برسوم يدفعها بنفس دخله الحالى! لأن استمرار إطعام الشعب السمك بدلًا من تعليمه صيده، سيفاجئه بصراع حقيقى بين ما هو عليه، وبين أدوات الاستثمار الجديد على أرضه، الذى لن يقبل بشهادات الخبرة المضروبة، أو الواسطة، أو تعليم (السناتر)، أو أحادى اللغة، أو الشللية، أو المتزمتين دينيًّا!
تقديرى الخاص أن المدن الجديدة تستهدف إعادة اكتشاف وتوظيف مصر ومواردها جيوسياسيًّا، فى توقيت محسوب تمامُا! تعاصرت وتداخلت فيه الديون مع تهديدات سد النهضة، ومخاطر التورط بغزة، وضغوط توطين الغزاويين برفح وسيناء، ومشاكل السودان جنوبًا، وليبيا غربًا، وصراعات الغاز بالمتوسط، وتعويم الجنيه كاملًا، وتضخم أسعار غير مسبوق، وترهل شعبى ملحوظ! وكلها عوامل ضد مفاهيم الاستثمار المباشر! ومع ذلك تلمع إشارات النجاة فى توقيت محسوب اقتصاديًّا وسياسيًّا وإستراتيجيًّا! فاقتناص مصر موقعًا وقيمة جيوسياسية مرصود على مر العصور! لأنه، حتى لو فشل الربيع العربى بتقسيم مصر إلى دويلات مستقلة، فلا يستبعد ترسيمها كأقاليم اقتصادية ستحرص مستقبلًا على حماية وتأمين استثماراتها، وتنميتها وزيادتها!
من هنا تكون حكمة قبول التغيير التدريجى للعقلية الإدارية الروتينية، وتطوير منظومة جديدة لفصل مالك الخدمة ومُشرفها ومُحاسبها (الدولة) عن مُقدم الخدمة، عن مُنفذها، لمصلحة المواطن فى عموم مصر الجديدة، حيث سيصعب تقبل المدن الجديدة أن تمتد لها البيروقراطية، والفساد الإداري، ومركزية الإدارة، وسيطرة الدولة على إدارة المرافق والخدمات، والاعتماد على الضرائب والرسوم. تأسس نجاح تجربة دبى على اتفاق إنجليزي/ إماراتى لتصميم وتنفيذ منظومة إدارية ومالية وقانونية ورقابية بمعايير عالمية حكمت الشارع قبل المكاتب، لإنجاحها كخليفة للتجربة الإنجليزية بهونج كونج! وتخطو السعودية دربها نحو العالمية بمنهجية خارج الصندوق، تنحت مفاهيم جديدة للمنافسة بالخدمات، لتطوير شكل ووظيفة أفضل للمستقبل بحياة الإنسان!
من هنا نحتاج للتنبه لأثر الأقاليم الاقتصادية الجديدة على الوعى الجمعى للمصريين! فالـ110 ملايين مصرى لن يغرفوا من المليارات لمجرد كونهم مصريين بالبطاقة! الأمل فتح الإدارة العليا أضابيرها لمؤاخاة نهضة كبارى الأرض، بشجاعة تشييد كبارى تطوير وتدريب وتحرير العقل والخدمات المصرية! فات وقت سياسة ألا يوجد بالإمكان أبدع مما كان؛ لأن فيما سيكون سيحتاج لتغيير المضمون! وإلا فسنعيش أزهى عصور حرية التابعين بالازدهار لحساب الجديد! لا نريد الدخول للأقاليم الاقتصادية الجديدة بفيزة، أو تزويدهم بالأيدى العاملة الفنية والصناعية فقط! فوعد أم الدنيا سيحتاج حسمًا لأولاد يستعيدون يقظتهم للمشاركة بمستقبل مقبل، وليس مجرد مراقبته عن بُعد! فمصر والمصريون يستحقون قطف ثمار 10 سنوات من نحت الصورة الذهنية لمصر جديدة، يترأس حكمتها «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
* محامى وكاتب مصرى